الأحد 2023/09/17

آخر تحديث: 08:28 (بيروت)

الصين تعيد أميركا الى الشرق الأوسط

الأحد 2023/09/17
الصين تعيد أميركا الى الشرق الأوسط
increase حجم الخط decrease

اختار الرئيس الأميركي جوزيف بايدن قمة العشرين التي انعقدت في نيودلهي ليعلن اكتمال أبرز تحوّل في سياسته الخارجية ويبشر بالبدء في مشروع إستثماري - تقني- تنموي عملاق يهدف الى الربط بين الهند وأوروبا عبر الخليج العربي مرورًا بالأردن واسرائيل تشارك فيه ماليًا الى جانب الولايات المتحدة، كل من الهند، الإمارات العربية المتحدة، السعودية، فرنسا، المانيا، إيطاليا والإتحاد الأوروبي، في مبادرة تهدف الى منافسة "طريق الحرير" الذي باشرته الصين قبل سنوات تحت اسم مشروع "الحزام والطريق" لربط الصين بأوروبا عبر الباكستان وايران وتركيا من خلال تمويل وتنفيذ البنى التحتية والسكك الحديد وفق قروض ميسّرة. وكان غياب الرئيسين الصيني تشي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين فرصة له ليحقق ما يريد. 

لا يحتاج إعلان بايدن بمعية رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي محمد بن سلمان الى كثير عناء لمعرفة أهدافه الحقيقية؛ أهداف تتعلق بالسعي الأميركي لإحتواء النفوذ الصيني المتعاظم، والذي بدأت ملامحه بالتجلي سياسيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا وعسكريًا في اقليمين حساسين في النظام الدولي، أي الخليج ووسط أفريقيا في ظل التكامل العملاني بين بكين وموسكو والذي تجلى في النجاحات الدبلوماسية الصينية خصوصًا المصالحة بين السعودية وايران وإبقاء دول الشرق الأوسط على مسافة محايدة من حرب أوكرانيا، والـ "إنجازات" الميدانية الروسية من انقلابات وحضور أمني في مالي وجمهورية افريقيا الوسطى والنيجر والغابون وبنين والكاميرون، مع ما يعني ذلك من تهديد لما تبقى من غرب افريقيا مع التقدير الحساس لغانا والجائزة الكبرى نيجيريا. 

ورث بايدن، الذي يتباهى بسجله الحافل في السياسة الدولية كرئيس للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ ثم كنائب للرئيس، عن الإدارة السابقة سياسة خارجية مضعضعة تقوم على شخصانية سلفه دونالد ترامب، الذي اعتبر كيم جونغ اون صديقًا حميمًا وفلاديمير بوتين قائدًا فذًا، وعلى تحطيم العقيدة الدولية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال تهميش حلف شمال الأطلسي وإستعداء الحلفاء التقليديين، لكنه ورث عن شريكه الأكبر باراك أوباما عقيدة "إحتواء" الصين في مهدها من خلال تعزيز الترتيبات الأميركية في المحيط الهادئ انطلاقًا من الدفاع عن "سيادة" تايوان ووصولًا الى حفظ المصالح الإقليمية للفلبين وفيتنام وماليزيا واندونيسيا والشريك الأهم استراليا.

سرعان ما اكتشف بايدن أن الصين الشعبية تختلف تمامًا عن الإمبراطورية اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية، وأن النمو الصيني لا يمثل تهديدًا للمصالح الأميركية في المحيط الهادئ وحسب، وانما هو تحدٍ كوني لا يقتصر على الاقتصاد والعسكر بل يطرح أيديولوجية بديلة للأنموذج الغربي، أيديولوجية الاقتصاد الوطني الموّجه الذي لا يحتاج الى التعبير الديمقراطي بل يقوم على صوابية الحزب القائد المتمكن من القضايا الحيوية، وهذا بالطبع يلائم النخب السياسية والدينية والإقتصادية في مجتمعات حديثة العهد بالإستقلال والليبرالية والإنتخابات وحرية الإعلام والمساءلة وتداول السلطة. واكتشف ان الطموحات الصينية خصوصًا في عهد الرئيس تشي جينبينغ، الذي اقلع عن تقليد التخلي عن السلطة بعد ولايتين والمعتمد منذ ما بعد الحقبة الماوية، لا تقيم وزنًا لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ولا حتى الحدود التي رسمتها الحرب الباردة، بل تقتحم مناطق النفوذ الأميركي التقليدية من القارة الأميركية الى أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، وقد حققت نجاحات ملحوظة خلال رئاسة ترامب الإنعزالية التي اكتفت بالحرب الضريبية الإنفعالية مع الصين دون رؤية استراتيجية للعلاقة معها تتعدى ردود الفعل.

في هذا السياق تنبهت إدارة بايدن الى ان الحرب التجارية وإن الحقت بعض الضرر بالصناعات الصينية ليست مجدية لأنها تلحق ضررًا مماثلًا بالصناعات الأميركية المخصصة للسوق الصينية، وأن التحدي الأساس ليس ثنائيًا أو اقليميًا وانما يمس النظام العالمي ككل، ولذلك عمدت في قبل قمة الدول الصناعية السبع الذي انعقدت في مدينة هيروشيما في اليابان الربيع الماضي، الى تدويل المواجهة مع الصين من خلال الإستثمار في البنى التحتية للدول النامية والتي اطلق عليها اسم الشراكة الكونية للبنى التحتية والإستثمار (PGII) والتركيز على المنطقة الحيوية من افريقيا عبر المبادرة التي اطلق عليها اسم "ممر لوبيتو" (Lobito Corridor)، ففي الشراكة الأولى بنى تحتية للطاقة المتجددة والسكك الحديد وشبكات الإنترنت في انغولا وغانا والكونغو وسيراليون وغامبيا وكينيا وتانزانيا في افريقيا والهند واندونيسيا في اسيا ورومانيا في أوروبا وكوستاريكا والبرازيل في القارة الأميركية. هذا كله ليس صحوة للسخاء الأميركي لكنه استثمار مضاد للنفوذ الصيني تمامًا مثل الممر الاقتصادي الأخير.

ككل المشاريع الكبرى هناك رابحون وخاسرون. ما يهمنا عربيًا من الممر الاقتصادي، هناك خاسران رئيسيان بدرجات متفاوتة، مصر ولبنان. المشروع المقترح للتواصل التجاري المباشر بين الهند وأوروبا يمر عبر الخليج بحرًا وبرًا، يعني أن البضائع المصنعة في الهند ستنتقل بحرًا الى موانئ الإمارات ومنها برًا عبر القطارات الى السعودية ثم الأردن ثم مينائي عكا وحيفا في فلسطين، هذا يعني انخفاض الإعتماد على قناة السويس لسفن الحاويات التجارية المتجهة الى أوروبا، وهذا انخفاض نسبي قياسًا الى حجم الإستخدام الدولي للقناة، أما لبنان الذي استفاد كثيرًا من المقاطعة العربية لإسرائيل منذ نشوئها وتحول الى محطة الزامية للتبادل التجاري بين أوروبا والداخل العربي فتمت الإستعاضة عنه بإسرائيل (المستقرة والحاضرة في المحافل الدولية والقادرة على تنفيذ التزاماتها). ولذلك لن يكون للبنان (التابلاين والزهراني ومرفأ بيروت والمصارف) أي حاجة مباشرة.

تراهن إدارة بايدن في مقاربتها هذه على تباطؤ الاقتصاد الصيني الذي ضاعفت منه الإعصارات والسيول القيامية الأخيرة، معطوفة على التردي البالغ في القطاع العقاري، وعلى التعثر الإستراتيجي الروسي في الحرب على أوكرانيا. ترى واشنطن أنه بين الركود في الصين والفشل في روسيا، يمكنها أن تستعيد نضارة أنموذجها العقائدي، لأن ليس لدى بكين أموال إضافية للإستثمار في الخارج وليس لدى موسكو ما تتباهى به.


   

             

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها