الإثنين 2023/05/29

آخر تحديث: 21:19 (بيروت)

الولاء والحرية

الإثنين 2023/05/29
الولاء والحرية
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
من الولاءِ ما يَأخُذُ بالمبدإ الأوتوقراطيّ فيكونُ ولاءً لزعامةٍ تُنْشئُ لنفْسِها نظاماً يؤبِّدٌها في موقِعِها ويجعلُها شِبْهَ مطلَقةِ اليَدِ، في دائرةِ سلطَتِها، دولةً كانت هذه الدائرةُ أم حزباً. وهذا إلى حدّ القدرةِ على اختِراقِ الحدودِ بينَ السلطاتِ، في حالةِ الدولةِ، وإن بقيَت هذه الحدودُ ماثلةَ الرسمِ شَكْلاً. أو يكونُ الولاءُ، على الأصَحِّ، ولاءً لزعيمٍ شَخْصٍ، في هذه الحالة: زعيمِ دولةٍ أو زعيمِ حزبٍ... ومن الولاءِ ما يأخُذُ بالمبَدإ الديموقراطيّ فيكونُ ولاءً لنظامٍ يعتَمِدُ حُكمَ القانونِ ويتمخّضُ، وفقاً للقانونِ، عن قيادةٍ سياسيّةٍ مقيّدةِ السلطةِ ومحدودةِ المدّة.

في حالةِ الدولةِ، يَظْهَرُ الاختلافُ بينَ الولاءينِ، أوَّلَ ما يظْهَرُ، على الأغلب، في سَعةِ كلٍّ منهما وفي أسلوبِ التعبيرِ عنه. هكذا يغلبُ أن يَظْهَرَ الولاءُ للزعيمِ كاسحاً، بل شِبْهَ إجماعيٍّ، في كثيرٍ من الحالاتِ، فلا يَدَعُ مجالاً لمنافسةٍ جادّةٍ ويعتمدُ تعابيرَ فاقعةً عن نفسِهِ تستكثرُ من الشعائرِ الممسرحةِ وتُظهرُ استعداداً للعنفِ في الدفاعِ عن شخصِ الزعيمِ وعن ثباتِهِ في موقعِهِ وعن شعاراتِ عهدِه. هذا بينَما يفتَرِقُ الولاءُ للنظامِ الديمقراطيِّ عن الولاءِ للقيادةِ أو لرأسِها المنتخَبِ فيصِحُّ أن يُدْعى هذا الولاءُ الأخيرُ تأييداً لا ولاءً. يتَمَثّلُ الولاءُ للنظامِ هَهُنا في الالتزامِ بحُكْمِ القانونِ وبالدستورِ، على الخُصوصِ. فيكونُ هذا الأخيرُ محلَّ رعايةٍ جامعةٍ مبدَئيّاً وإن وجدَت مواقفُ معارضةٌ لهذا أو ذاكَ من مندرجاتِهِ ومساعٍ ناشطةٌ لتعديلِهِ أو تغييره. وأمّا تأييدُ القيادةِ أو تأييدُ رأسِها فيُبْقيهِ التعبيرُ الحُرُّ عن تعدُّدِ التوجّهاتِ السياسيّةِ في المجتَمعِ بعيداً، في الأغلَبِ، عن الإجماعِ أو شبهِ الإجماعِ وبعيداً عن الثباتِ أيضاً.

حتّى أنّ الأكثريّةَ الحاكمةَ لا يندُرُ أن تكونَ أو تُصْبِحَ كبرى الأقلّيّاتِ، لا غيرُ، فلا يحفظُها في موقِعِها سوى أن يتعذّرَ تماسكُ حلفٍ أكثريٍّ في مواجهتِها. يحصُلُ كثيراً أيضاً أن تتراجعَ نسبةُ التأييدِ التي يحظى بها رأسُ الدولةِ (أو تحظى بها خياراتُه السياسيّة، بالأحرى) فتغدو أدنى، بقليلٍ أو بكثيرٍ، من تلك التي حملتهُ إلى منصبِه. فلا يبقيهِ في هذا المنصبِ سوى الضمانةِ الدستوريّةِ لمدّةِ ولايتِه. هذا وتوجَدُ في الديمقراطيّةِ أيضاً شعائرُ إظهارٍ للتأييدِ واحتفالٍ بالمرشّحينَ للسلطةِ وبفوزِهم بها. ولكنّها شعائرُ يلطّفُ التقليدُ من حدّتِها وتبقى بمنأىً عن إنكارِ ما للمنافسينَ من تمثيلٍ وشرعيّةِ وجودٍ وحركةٍ وعن توعُّدهم بالعنف...

والخلاصةُ أنّ الزعامةَ الأوتوقراطيّةَ تنحو نحْوَ إلحاقِ النظامِ بأسْرِهِ برِكابِها فيما تبقى القيادةُ الديموقراطيّةُ مقيّدةً بحُكْمِ القانونِ، مدينةً لَهُ بسلطتِها وملزمةً، وفقاً له، بصيغٍ مقرّرةٍ لممارسةِ  هذه السلطةِ وبحدودٍ مرسومةٍ لها أيضاً.

هذا ولا تختلفُ السِماتُ الإجماليّة للتَنْظيمِ السياسيّ ذي الصفةِ الديموقراطيّةِ عن تلكَ المميّزةِ لنظامِ الدولةِ الديموقراطيّةَ سوى بتفاصيلَ تنظيميّةٍ يمليها اختِلافُ النطاقِ والوظيفة. وإنّما المبْدَأُ واحد. وهذا يصِحُّ أيضاً في الحزبِ ذي الزعامةِ الأوتوقراطيّةِ وفي نظامِ الدولةِ الذي ينشئهُ هذا الضربُ من الأحزابِ حيثُ يضعُ يدَهُ على سلطةِ الدولة. وإنّما السؤالُ الذي نتوخّى طَرْحَهُ هنا هو سؤالُ الولاءِ: ذاكَ الذي تطرحهُ هذه المقارنةُ بينَ الالتزامِ بشخصِ الزعيمِ أو موقعِ الزعامةِ وما يمليهِ أو تمليهِ من إراداتٍ وبَيْنَ تأييدِ القيادةِ المنتخبةِ، ممثّلةً برأسِها، والالتزامِ بما ترسِمُهُ في نطاقِ القانون.

يَسَعُ هذا السؤالَ أن يكونَ التالي: ما الذي يحمِلُ الجماعةَ، جماعةَ حزبٍ كانت أم جماعةَ شعبٍ، على أن تخصَّ بولائها المُشْرَعِ زعامةً تزعُمُ تجسيدَها (بالمعنى الحَرفِيِّ للتجسيدِ، أي بمعنى الاستواءِ جسَداً مختصراً لها) ولكنّها لا تشركُها في قرارٍ تتخذُهُ ولا تعدّها جديرةً بالمبادرةِ الحرّةِ، تصدُرُ عن جهةٍ فيها، في أيّ شأنٍ من الشؤونِ ذاتِ الوقعِ العامّ؟ وإنّما السائدُ أن تُجْعَلَ المبادرةُ محلَّ شبهةٍ وأن يُحالَ دُونَ التجمُّعِ أو التنظيمِ المستَقِلِّ وأن يعدَّ ظهورُ المعارضةِ ظاهرةَ عداوةٍ للزعامةِ وللجماعةِ برُمّتِها، بالتالي. فيُرى هذا الظهورُغيرَ قابلٍ للاحتِمالِ أو للاستيعابِ بل يُرى مستدعياً القمعَ والإلغاء.

ما الذي يجعَلُ الجماعةَ، في كثرةٍ معلومةٍ من الحالاتِ، تظهرُ، باعتِبارِ سَعةِ النطاقِ التي يبلغُها ولاؤها والحماسةِ العارمةِ في تعبيرِها عنه، وكأنّها تؤثِرُ هذا النَمَطَ من القيادة – نَمَطَ زعامةِ الشخصِ المهيمنةِ – على ذاكَ الذي يَدَعُ لكلّ فرْدٍ من أفرادِها ولكلّ كسرٍ من كسورِها، في المبدإ، قولاً يدلي بِهِ في كلِّ أمْرٍ من الأمورِ العامّةِ (ناهيكَ بكفالةِ حرّيّتِهِ في تدبيرِ ما يخُصُّهُ من أمورٍ) ويدَعُ له أيضاً سبيلاً لتفعيلِ هذا القولِ يفتَحُهُ التجديدُ الدوريُّ لمؤسّساتِ النظامِ وتعزّزه حرّيّةُ التعبيرِ وحرّيّةُ التنظيم؟

أوّلُ ما يَتبادَرُ إلى الخاطرِ تفسيراً لهذه المفارقةِ نسبتُها إلى القَمْعِ أو إلى الإرهابِ أي اعتبارُ الولاءِ للزعامةِ الشخصيّةِ نفاقاً يستدعيهِ الخوفُ من السلطة. فإذا تَجَسّدَ التعبيرُ عن هذا الولاء في نتيجةِ انتخابٍ عُزِيَت النتيجةُ إلى التزوير، على اختلافِ صُوَرِه. ولهذا كلِّهِ نصيبٌ من الصحّةِ دوماً ولكنّ في البَذْلِ المحسوسِ المختلفِ الوجوهِ، وهو يتعدّى مجرّدَ الحَماسةِ في التعبيرِ ويتَّخذُ، هنا وهناكَ، صوَراً قصوى، وفي الحُشودِ المتراميةِ العارمةِ أيضاً ما لا سَبيلَ إلى تزويره. وإنّما يُطْلَبُ التفسيرُ الأصدَقُ لهذا النوعِ من الولاءِ في بِنيةِ العلاقةِ ما بينَ النظامِ بأسره، بما يمنحُهُ من سلطةٍ للزعامةِ، وجمهورِ الرعايا، في حالةِ الدولةِ، أو جمهورِ المناصرينَ أو الأتباعِ في حالةِ التنظيمِ السياسي.

وخلاصةُ ذلك أنّ هذا النظامَ يقومُ أصلاً على تجريدِ من يُظِلُّهم، أفراداً وجماعاتٍ، من كلّ حَوْلٍ أو طَوْلٍ تاركاً إيّاهم في عُرْيٍ من الحقوقِ وخَوَرٍ في الطاقةِ حيالَ الزعامة. هذا الضعفُ المُعَمَّمُ هو ما تنبثقُ منهُ الحاجةُ إلى التعويضِ المكثَّفِ في قوّةِ الزعامة. ولا ريبَ أنّ الزعيمَ محتاجٌ إلى تأسيسِ زعامتهِ على مزايا شخصيّةٍ بارزةٍ وعلى مُنْجَزاتٍ ذاتِ وَقْع. فالزعامةُ لا تَخْرُجُ من عدمٍ ولا تُرْسى على فَراغ. ولكنّ المَزايا يَسْهُلُ نفخُها والمنجَزاتِ لا يعْسُرُ تضخيمُها فَضْلاً عن تأبيدِ مفعولِها المبتَغى. وتُتَّخَذُ هذه وتلكَ، في كلِّ حالٍ، ستاراً لأوضاعٍ لا يُدارى خَرابُها الضارِبُ في الأُسُسِ وحِجاباً لمخاطِرَ تكشِفُ المجادلةُ فيها ما عليهِ النظامُ والجماعةُ من هَشاشةٍ أصليّةٍ، وذريعةً لكَمّ الأفواه ما خلا ما كانَ تمجيداً لها وتبجيلاً لصاحبِها وللمضيِّ قُدُماً، فَوْقَ هذا كُلِّهِ، في "تطْفيلِ" الجماعةِ أفراداً وتَكاوين بحيثُ يؤولُ ما قد ينالُها من خيرٍ، في هذا المضمارِ أو في ذاك، إلى منّةٍ عليها، من جهةِ الزعامةِ العبقريّةِ، لا إلى حقٍّ لَها وهي المُجَرّدةُ من الحقوقِ الأصليّةِ. فتلكَ حالُ الجماعةِ، في الواقع، بمُقْتَضى فرضِيّةٍ ضِمنيّةٍ تَتَواطَأُ هي وزعامَتُها على الأخْذِ بِها وإن أَظْهَرا خِلافَها.

ذاكَ – أي العَجْزُ المُعَمَّمُ في الجماعةِ – هو أصْلُ البَلاءِ بهذا الطرازِ من الزعامةِ الذي يتّخذُ لبوساً شخصيّاً ويُلْحقُ بنفسِهِ نظامَه. وأمّا حماسةُ الحُشودِ فهي  العَرَضُ المُتَرَتِّبُ على هذا العَجْزِ الأصيلِ، يُجَنِّبُ المحكومَ عليهِم بِهِ محنةَ مواجَهَتِه. وذاكَ أنّ في هذا البديلِ راحةً مؤكّدةً، ولَو إلى حين... وهذا مخرَجٌ له، في عُصورِ التاريخِ، شواهدُ كثيرةٌ، لعلَّ أظْهَرَها ما كانَ العَبْدُ يَحْفَظُهُ لسَيّدِهِ من وَلاءٍ يَهونُ مَعَهُ بَذْلُ الحياةِ نَفْسِها. فإنّما العُمْدةُ، في هذا الأمْرِ، هي المصادرةُ الكُلّيّةُ لِنَفْسِ العَبْدِ ولِشُروطِ بقائهِ فيُسْتَبْعَدُ، في حالتِهِ، إمكانُ التَدَبُّرِ المستقِلِّ والتَمَرُّد.

على هذا، لا يأتي استعدادُ الرَعايا أو الأتباعِ للبَذْلِ بريئاً من استحواذِ الزعامةِ على جملةِ ما يُضِرُّ أو يَنْفَعُ، توزّعهُ بحسبِ ما يقتضيهِ ترسيخُها وتأبيدُها. فإذا أصبحَت هي المحكَّمةَ في وجوهِ المعاشِ وحاجاتِهِ كلِّها من الدَخْلِ إلى الصحّةِ إلى التعليمِ إلى رعايةِ المسنّينَ، فَضْلاً عن الأمنِ والحمايةِ، أي على وظائفِ الدولةِ برُمَّتِها، وهذا بأسلوبِ الاستئثارِ المفروضِ والأمرِ الواقعِ وليس بأسْلوبِ الاختِيارِ المؤسَّسيِّ الحُرِّ، كانَ ذلكَ مَجْلَبةً لضَرْبٍ من الولاءِ، مترَتِّبٍ على الحِمايةِ أو على الإعالةِ أو على كِلَيْهِما، منتَظَرٍ من جانبِ مَن لم يُتْرَكْ لَهُم حقٌّ أصيلٌ في شَيْءٍ: لا في قرارٍ أو مَشورةٍ ولا في مَنْفَعة. هذا التجريدُ من الحُرِّيّةِ المصونةِ بالقانونِ ومن الحقوقِ بما هِيَ أساسٌ لِما يُطْلَبُ ولِما يُنالُ لا يَدَعُ للولاءِ المذكورِ من قيمةٍ ما خلا قيمتَهُ بِما هو قُوّةٌ ماثلةٌ للتوظيفِ من جِهةِ الزَعامةِ وقيمتَهُ بِما هو موضوعٌ للدَرْس.

يُقابِلُ هذا، في المشهدِ الديموقراطيِّ، قَلْبُ الميزانِ ما بينَ الزعامةِ والنظام. فلا يبقى هذا ملحقاً بتلك بل تغدو هي وظيفةً من وظائفِهِ، حتّى لَيُصْبِحَ اسمُها نفْسُهُ فَضْفاضاً عليها. وهو ما يؤولُ إليهِ فقدانُها الصفةَ الشخصيّةَ في عَلاقَتِها بالجماعةِ أي هَهُنا بالقاعدة. وهو ما يترَتَّبُ على اعتِبارِها وظيفةً أنشَأَتْها القاعدةُ: مَصْدَرُ السُلْطةِ وصاحبةُ الحقوقِ جميعاً. وهو ما يفتَرضُ الحرّيّةَ، على اختلافِ المجالات. وهذه تستدعي الكثرةَ في تشكيلِ الجماعةِ: مستوياتٍ وتوجُّهات. وفي ما يعني موضوعَنا هَهُنا، يؤولُ المَشْهَدُ الديمقراطيُّ إلى نَقْلٍ للقيمةِ من القِمّةِ إلى القاعدةِ أي إلى إرادةٍ لتسليمِ البَشَرِ زِمامَ أُمورِهم. وهو ما يعادِلُ التَصْريحَ، مرّةً أخرى، بأنّ الولاءَ لزعامةٍ تُرْسى على تجريدِ الجماعةِ، أفراداً وتشكيلاتٍ، من  الحقوقِ ومن التصرُّفِ الحُرِّ بها، بما هي مَصْدَرُها، إنَّما هو ولاءٌ لا قيمةَ له.

ألزَمَنا ما سَبَقَ باختِزالٍ لا يَخْفى فَرَضَتْهُ الحاجةُ إلى الإيجازِ وإلى الخُلوصِ المُباشِرِ إلى لُبِّ القضيّةِ موضوعِ هذهِ العُجالة. فلا تصنيفُ الأنظمةِ على النَحْوِ المُقْتَرَحِ أعْلاهُ وافٍ لو كانَ المُرادُ اتّخاذُ التصنيفِ موضوعاً، ولا المُؤدّى الحِسّيِّ لكلٍّ من الطرازَينِ المُسْتَبْقَيَينِ يَسْتَنْفِدُهُ ما أُشيرَ إليهِ من سِماتٍ هَيكَليّة، إلخ. على أنّ ما يُعَيِّنُ قيمةَ الوَلاءِ يبقى هذا الذي أبْرَزْناهُ: أي الحُرِّيةَ بمُقَوِّماتِها المعنويّة، وهي الحُقوقُ، وبِمُقَوِّماتِها الحِسّيّةِ، وهي المُقَوِّماتُ المَعْلومةُ لحياةِ الجماعةِ ومُقَوِّماتُ الحياةِ الشخصيّةِ في المُجْتَمَعِ بِما هِيَ حُقوقٌ أيضاً.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها