الخميس 2023/03/23

آخر تحديث: 06:43 (بيروت)

غزو العراق الذي غيّر أميركا والعالم

الخميس 2023/03/23
غزو العراق الذي غيّر أميركا والعالم
increase حجم الخط decrease

مساء الخميس في العشرين من آذار/ مارس 2003، فتحت أبواب جهنم فوق العراق، أكتظ سماؤه بآلاف الصواريخ الباليستية والمتوسطة المدى التي أطلقتها السفن الحربية والبوارج من البحور المحيطة، وعشرات القاذفات الإستراتيجية والطائرات الشبح التي انطلقت من أميركا وأوروبا والجوار مستهدفة الدفاعات الجوية والمواقع العسكرية والمقرات الحكومية في بغداد ومدن أخرى لتحول ليل العراق الى نهار ناري عنيف أعلن بدء حرب الخليج الثانية التي اطلق عليها اسم عملية "حرية العراق" من واشنطن المندفعة الى الحرب بحماس هائل متسلحة بإنفعال الحادي عشر من أيلول 2001، الذي لم يطفئه غزو أفغانستان، وبرواية منفردة عن علاقة بين نظام صدام حسين وبين منفذي هجمات نيويورك وواشنطن، وعن أسلحة دمار شامل. لم تأبه أميركا لموقف أوروبا الغربية وبقية العالم، إكتفت بالتشجيع البريطاني والأسترالي وعزمت على محو "عقدة فيتنام" وجلب الديمقراطية على ظهور الدبابات.

يومها كانت النخب الأميركية في معظمها تحلق عاليًا بجناحين فتاكين، الأول إحتفالي وهو انتهاء الحرب الباردة، بإنهيار الإتحاد السوفياتي الذي تم التخويف منه لعقود كخطر وجودي عقائديًا وعسكريًا، والثاني ثأري من 11 أيلول، كانت الإنفعال "الوطني" في ذروة هائلة تنطوي على مفارقة كبيرة. لم يأت اعلان المفكر الأميركي القريب من أروقة القرار فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ" من فراغ، أميركا انتصرت تمامًا بلا حرب وبلا مهزوم بالمعنى التقليدي، لكنها في غمرة انشغالها بسيل الغنائم وتثبيت موقعها كقوة عظمى وحيدة في عالم جديد تلقت صفعة هائلة تعادل الهزيمة، هزيمة بلا حرب وبلا عدو بمواصفات ندّية يمنحها فرصة المبارزة والإنتصار في الميدان لتأكيد تفوقها وجدارتها. من هذه المفارقة بالتحديد إنطلق المحافظون الجدد، زملاء فوكوياما، ليحتلوا موقع الصدارة في أروقة القرار ويباشروا في تنفيذ رؤيتهم لـ "أمركة العالم" لم تكن أفغانستان مناسبة أو كافية، كان لا بد من دولة أكبر ذات إرث تاريخي – حضاري أكثر إثارة في منطقة حساسة ومهمة، كان لا بد من العراق.

في واشنطن، المدينة التي تعرف كيف تكشف اسرارها، كان واضحًا منذ إنطلاق أول طائرة عسكرية نحو أفغانستان أن الهدف هو العراق، إنشغل جورج بوش الإبن فور نجاته "إعلاميًا" من صدمة 11 أيلول، بدور الرئيس الموحّد للأمة ولم يعبأ كثيرًا ببروز نائبه ديك تشيني وتصديه لمهمة "نشر الديمقراطية والرخاء" وفق أجندة المحافظين الجدد الذين انكبوا على كتابة فصول الرواية غير آبهين بالوقائع والحقائق ولا التاريخ. تحولت الإدارة كلها الى ورشة متكاملة لوضع السيناريو وتحديد الممثلين واعداد المسرح، لم يكن هناك مجال لرأي معارض ولا احترام لصوت العقل، ومن نوادر تلك الحقبة أن دونالد رامسفيلد (الذي كان وزير الدفاع يوم سقطت سايغون) سخر من الجنرال جاي غارنر الذي كان مكلفًا بإدارة العراق بعد احتلاله، عندما نبهه الى الكلفة العالية الممكنة للحرب وقال له: "إن كنت تعتقد باننا سننفق مليار دولار من اموالنا فانت للأسف مخطئ". على هذا المنوال وبشيء من البهلوانية تم تجيير آلة الحرب الباردة اعلاميًا واكاديميًا وسياسيًا لتؤلب الرأي العام على صدّام، الذي تحول الى خطر داهم يمكن ازالته بيسر. 

عشية الحرب كان الأميركيون مقتنعين بها، وحسب ارقام مركز "بيو" المرموق كان 83% منهم يعتقدون أن العراق ساعد الإرهابيين في 11 أيلول، و77% يعتقدون أنه صنّع أسلحة دمار شامل، و75% يعتقدون أنه يأوي إرهابيين آخرين، و65 يعتقدون أن يمتلك أسلحة نووية، مع ارقام كهذه كان سهلًا على الكونغرس أن يسن في تشرين الأول 2002 قانونًا يفوّض الإدارة استخدام القوة بالطريقة التي تراها مناسبة (الأسبوع الماضي قدم عدد من المشرعين مشروع قانون لإلغاء التفويض). كذلك أيد 66% من الأميركيين غزو العراق مقابل معارضة 26% فقط، وارتفعت نسبة المؤيدين الى 71% مع بدء المعارك وانخفضت نسبة المعترضين الى 22%، الّا أن الأرقام اختلفت كثيرًا بعد الغزو والإحتلال ففي العام 2018 قال 48% أن الحرب كانت قرارًا خاطئًا مقابل 43% (مقارنة مع 22% و71% عام 2003)، وفي العام 2019 رأى 62% أن الوضع لم يكن يستحق الحرب، والملفت في الرقم الأخير أن نسبة الجنود الذين شاركوا في الحرب الذين قالوا انها لا تستحق هي 64%.

عشرون عامًا على الغزو، كانت حربًا انتقائية أكثر منها انتقامية، لكن مفاعيلها التي لا تزال تتوالى تجاوزت العراق وأميركا معًا وغيّرت العالم. في الشرق الأوسط انهار النظام العربي الذي كان سائدًا منذ قيام الكيان الإسرائيلي، تبدد مفهوم الأمن القومي وتحول الوطن العربي الى ساحات وميادين لم ينجح الربيع العربي المؤود في استعادتها، فيما انتعشت القوى الإقليمية القريبة ايران وتركيا ... وإسرائيل التي وسّعت دائرة التطبيع عربيًا وضيقت على الشعب الفلسطيني واستفردت به. لكن الإنفجار العربي الداخلي كان الميزة الأسوأ التي توجتها تجربة "داعش" المرعبة والتي لم تنته بعد ولا تزال تتغذى على الفتنة المذهبية التي أعاد الغزو انتاجها بوقاحة مشهودة.

في أميركا زعزعت الحرب الثقة بالمؤسسة الأمنية الخارجية والمخابرات وبمصداقية المستوى السياسي ككل بعدما تبين زيف إدعاءات أسلحة الدمار الشامل وفشل تقديرات وتحليلات الشخصيات العراقية المعارضة التي تم اعتمادها كمرجعية وهي منفصلة تمامًا عن الواقع (وهذا ما افسح المجال لظاهرة مثل دونالد ترامب على حد قول "نيويورك تايمز"). لا شك أن مآلات الحرب التي كلفت الخزينة الأميركية حوالي تريليوني دولار وكبدت القوات الأميركية 4614 قتيلًا (وحياة أكثر من 3 آلاف متعاقد) وحوالي 33 الف جريح فضلًا عن عشرات آلاف الحالات النفسية لمتقاعدي الحرب، وخلفت حوالي نصف مليون قتيل في العراق الذي تشظى كدولة ولا يمكن تقدير خسائره المادية المباشرة وغير المباشرة، لا تغري أحدًا بتبني نتائجها أو الإشادة بها.

الذكرى العشرون لغزو العراق كانت موضع اهتمام اعلامي كبير في أميركا التي تحدثت صحفها ومواقعها عن الدروس المستفادة بمفعول رجعي وافردت صفحاتها للتحليلات والمقابلات والآراء، لكن المعضلة تتمثل في أن المزاج المنافي للحرب في العراق بالأمس، لا يستقيم اليوم مع دعوات النخب السياسية لتأييد حرب أخرى ... في أوكرانيا، وهي حرب وإن لم تبدأ بقرار أميركي لا يمكنها أن تستمر بدونه.           

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها