الإثنين 2023/11/06

آخر تحديث: 07:01 (بيروت)

عن حركة مناهضة الحرب في اميركا

الإثنين 2023/11/06
عن حركة مناهضة الحرب في اميركا
مظاهرة في نيويورك دعما لغزة (Getty)
increase حجم الخط decrease

"عندما أرى طفلًا فلسطينيًا، صبي أو بنت، يُنتشل من ركام مبنى متهدم، تصيبني ضربة في أحشائي كما تصيبني رؤية طفل من إسرائيل أو من أي مكان آخر، لذلك هذا شيء يرتب علينا ان نرد عليه، وهذا ما سنقوم به"... هذا التصريح ليس لأمين عام الأمم المتحدة ولا لمسؤول من دول أميركا الجنوبية المستنكرة لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. هذا تصريح وزير خارجية أميركا انتوني بلينكن في واشنطن قبل أن يتوجه الى تل أبيب في زيارته الرابعة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي يتضح يومًا بعد يوم أن مفاعيلها تتجاوز الجغرافيا الفلسطينية ومشاغل الشرق الأوسط لتتردد اصداؤها في ارجاء أميركا وتنذر بانبعاث أكثر الديناميات المؤثرة سياسيًا وانتخابيًا؛ دينامية حركة مناهضة الحرب التي باتت مكونًا اساسيًا في السياق السياسي الأميركي المعاصر.

كلام الوزير الأميركي، الذي بكّر في الوصول الى تل ابيب عقب الفضيحة الإسرائيلية الهائلة في السابع من تشرين الأول / أكتوبر، ليقدم أوراق اعتماده كيهودي مفجوع، وصهيوني مصدوم، أولًا وثانيًا، وكمسؤول أميركي منحاز ثالثًا، لم يكن موجهًا للإسرائيليين وحسب، بل توجه الى الأميركيين أولًا، وبالأخص الى الأميركيين اليهود، في انعطافة ملفتة في موقفه وموقف الرئيس جوزيف بايدن اللذين رفضا في البداية ذكر كلمة فلسطين وزاودا على الصهاينة انفسهم بالقول أن "دفاع" إسرائيل عن "مواطنيها" ليس حقها فقط وانما هو واجبها. ربما كان الموقف التلقائي هذا، انفعاليًا ومتسرعًا وهو ما لا يفترض أن يليق بدولة "عظمى" لأن تداعيات "طوفان الأقصى" أفضت الى أمرين لم يكونا في الحسبان شعبيًا وميدانيًا.

شعبيًا، اكتشف الأميركيون الذين افاقوا على صيحات حرب أعلى مما تعودوا عليه منذ الغزو الروسي لأوكرانيا قبل سنة ونصف، وعلى الرغم من التماهي الأميركي الكامل رسميًا واعلاميًا مع موقف اليمين الإسرائيلي متمثلًا في بنيامين نتنياهو وتحالفه الحكومي الفاشي، والذي كان موضع انتقاد منذ مطلع السنة الحالية، أن الرواية الرسمية منافقة، وأن المقارنة بين أوكرانيا وإسرائيل غير مستقيمة. أوكرانيا تقاتل الاحتلال وتحاول تحرير أرضها، وهي لا تحاول فرض ارادتها على قوة نووية ومدججة بأحدث أسلحة والأهم، أنها لم تقوض مساعي السلام ولم تضطهد شعبًا آخر على أسس عنصرية ودينية. كانت المقارنة التي تتوارد على خواطر النشطاء والتقدميين، والكثير منهم من اليهود، مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا والذي كانت الولايات المتحدة آخر من دافع عنه، حتى بعدما تخلت عنه النخب البيضاء في جوهانسبورغ. كما ايقظت الحملة الإعلامية المبالغ فيها لشيطنة غزة والفلسطينيين عمومًا في الأيام الأولى، ذكريات التمهيد الخبيث لغزو العراق 2002- 2003، وهكذا لم تعد المسألة تقتصر على التضامن مع غزة وفلسطين، أو ادانة الاحتلال وهمجيته، بل استعادت مشاعر مناهضة الحرب كفعل اكراه يلجأ اليه القوي لقمع الضعيف.

هذه المشاعر التي تجلت في تحركات وتظاهرات ومسيرات ونشاطات تجاوزات الحدود التقليدية لمناصرة فلسطين ومناوئة الاحتلال، واستقطبت المزيد من المستائين من السياسة الرسمية، استعادت خلال أيام قليلة روح الحركة المناهضة للحرب في عهد جورج بوش الإبن شكلًا ومضمونًا. ففي الشكل اعتمد المحتجون أساليب شديدة الفعالية تنظيمًا وتنفيذًا ليضمنوا الوصول الى أكبر جمهور ممكن. ثلاثة أمثلة على ذلك؛ عندما قصد بلينكن الكونغرس لطلب مساعدات عاجلة لإسرائيل، امتلأت قاعة جلسة الإستماع في مجلس الشيوخ بعشرات المحتجين (غالبيتهم العظمى من اليهود)، وفي حركة شديدة الدقة عمد المحتجون على مقاطعته كل دقيقتين من خلال قيام احدهم برفع لافتة واضحة الأهداف، فيما كان الجزء الأكير من الحاضرين يرفع ايديه المطلوة باللون الأحمر وعبارات وقف اطلاق النار ووقف ذبح المدنيين.

وفي خطوة لا تقل أهمية أقفل مئات المحتجين قاعة محطة القطارات الكبرى في نيويورك، وهي أكثر مكان يقصده السواح في أميركا، وأكبر مرفق للركاب والنقل البري، وتمكن المحتجون، ومعظمهم من اليهود أيضًا، من وقف الحركة تمامًا في المحطة مما استدعى تدخل الشرطة التي القت القبض على العشرات من الحاخامات والشخصيات العامة والنشطاء، اما على الساحل الغربي، وفي حدث لم تشهده أميركا منذ حرب فيتنام قبل أكثر من نصف قرن، أقتحم متظاهرون الرصيف العسكري من ميناء مدينة أوكلاند في شمال كاليفورنيا وتمكن عدد منهم من الصعود الى سفينة الشحن العسكرية "كايب اورلاندو" التي قالوا انها محملة بأسلحة وذخائر ومتجهة الى إسرائيل، مما أدى الى إبقائها في الميناء ومغادرة طاقمها، وهذه الحالات الثلاث غينة مما تشهده أميركا من تحركات أدت الى تعليق الدراسة في جامعات عريقة، وبلغت حتى المدارس الثانوية التي تعتبر خارج اطار الإهتمامات السياسية أو الدولية.

اذا كان من المفهوم الا يعير الإعلام غير الأميركي، وبعض المراقبين الاهتمام الوافي لهذه الإحتجاجات، فلا يسع الحزب الديمقراطي الذي ينتمي اليه الرئيس بايدن تجاهلها. فحركة مناهضة الحرب التي واجهت الرئيس الجمهوري جورج بوش الإبن بعد غزو العراق، أدت الى ثورة موصوفة في الحزب الديمقراطي قضت على الأحلام الرئاسية لبنت المؤسسة وأمها هيلاري كلينتون، وأوصلت الى البيت الأبيض أول رئيس أسود باراك حسين اوباما. كان الفارق بينهما هائلًا في الشكل، فهو عضو جديد في مجلس الشيوخ وهي سيدة أولى وأكثر أقدمية في الكونغرس، لكن في المضمون كانت هي مع الذين صوتوا لصالح غزو العراق وكان هو مع الأقلية القليلة التي صوتت ضده. هذه ذكريات تثير المخاوف في فريق بايدن الذي يعرف أن الجناح الليبرالي والشباب عمومًا في الحزب الديمقراطي لا يريدونه مرشحًا لولاية ثانية في انتخابات العام المقبل بسبب تقدمه في السن و"رجعية" بعض سياساته. تتزايد هذه المخاوف عندما يرى فريق بايدن أن في الحزب من هم (هن) مستعدون لمنافسته ...وازاحته كما حصل مع كلينتون التي كانت متوجة.

واذا كانت حركة مناهضة الحرب قابلة للتعامل معها قبل الإستحقاق الإنتخابي خريف العام المقبل، ويمكن لفريق محترف أن يعيدها الى خيمة الولاء من باب التخويف من احتمال عودة دونالد ترامب الى الرئاسة، فإن المعطيات الميدانية التي يمكنها أن تروّج لسيناريو من هذا النوع غير متوفرة في إسرائيل. في المسألة الأوكرانية نجح فريق بايدن من اظهار الفشل العسكري الروسي كحافز لدعم كييف، اما في غزة المحاصرة والمعزولة منذ أكثر من 16 سنة، والتي لا تتعدى مساحتها الكثير من محافظات أميركا، ولا تمتلك جيشًا أو بحرية أو قوات جوية ...ولا حتى ميناء أو مطار، فالمسألة مختلفة. ففي حرب حزيران 1967، هزمت إسرائيل دول الطوق في 6 أيام فقط واحتلت ما تبقى من فلسطين، وفي حرب تشرين 1973 التي شاركت فيها مصر وسوريا بمعونة عربية شاملة تمكنت إسرائيل خلال أقل من ثلاثة أسابيع من قلب الطاولة...وصارت على مسافة عشرين ميلًا من دمشق، وحاصرت الجيش المصري الثامن على الضفة الغربية لقناة السويس. أما ما بعد طوفان غزة فالمسألة مختلفة وليس لدى الجيش "الذي لا يقهر" ما يقدمه سوى مشاهد التدمير العشوائي لأحياء كاملة.

بين صمود غزة وبين تحرك الشارع الأميركي مسافة قصيرة تكاد ان تقاربت أكثر أن تغير ما ظن الكثيرون أنه قدر، وربما أول ذلك هو حل الدولتين الذي بدأ بايدن وبلينكن في الحديث عنه بجدية ترذل خزعبلات نتيناهو وتوقظ الصهاينة من غيبوبة الغطرسة.


       

           



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها