الإثنين 2023/11/20

آخر تحديث: 04:20 (بيروت)

الإمام "المُهَرِّج"

الإثنين 2023/11/20
الإمام "المُهَرِّج"
increase حجم الخط decrease

اعتاد الأباطرة والمستبدين إحاطة سلطتهم برجال دين في كل الأحقاب التاريخية. ولم ينتج هذا عقب بروز الديانات التوحيدية فحسب، بل ازدهر أيضًا فيما سبقها من اعتقادات وثنية. فالزعيم المهيمن بحاجة لشرعية "روحية" تجعل منه "ظل الله على الأرض"، أو، وفي أكثر الحالات تواضعًا، مندوبه. وقد حفلت السرديات المُحققة، بأوصاف متنوعة لمثل هؤلاء ممن يحيطون بالبلاط. أدوارهم تتراوح بين منح الشرعية الدينية لقرارات الطاغية، أو ممارسة الطغيان بديلاً عنه إن كان ضعيفًا. فالعلاقة بين رجال الدين والسياسيين تبادلية، حيث تكون السيطرة غالبًا في يد صاحب الحكم بمساعدة صاحب القداسة، ويمكن لها أن تتحرّر من هذه القاعدة، ليُصبح رجل الحكم محكومًا من صاحب القداسة. ومن الأمثلة على انعكاس الأدوار، وبنسب متفاوتة، نجد غريغوري راسبوتين (1869 ـ 1916) وسيطرته على قرارات القيصر الروسي نيقولا الثاني، ونجد أبو الهدى الصيادي (1849 ـ 1909) وسطوته لدى السلطان العثماني عبد الحميد.

امتدت هذه الممارسة في التاريخ الحديث على الرغم من الثورات الفرنسية (1789) والروسية (1917) والعربية (1916). بالمقابل، انحصرت أدوار رجال الدين، والذين يسميهم عبد الرحمن الكواكبي بالمتعممين الرسميين، في دول تتميّز بفشلها الذريع في بناء الدولة الوطنية وحاجة من تربّع على حكمها إلى شرعية دينية ليستغني بها عن الشرعية السياسية. وعلى الرغم من ادعاء كثير من الجمهوريات العربية اختيارها العلمانية كمنهجٍ وكجامعٍ وطنيٍ لكل رعاياها، إلا أنها استعانت برجال الدين من كل الأديان والمذاهب، ودجّنت عديدًا منهم لخدمة تسلطها وهيمنتها على الحجر والبشر.

ففي كثير من الدول العربية، قام المتعممون الرسميون، من مسلمين ومسيحيين، والناشطين بحرية مقيدة على هامش سلطة الاستبداد، بدعم خطواتها القمعية بشكل لافت. وتم ذلك من خلال إيجاد المبررات "الشرعية" واجتراع التفسيرات المشوّهة للنص الديني خدمة للبلاط. وقد تميّز البعض منهم بثقافة دينية متقدمة لم يستسيغوا إعمالها في حقل الخير والانسان واستطابوا تسخيرها لخدمة السلطان وغوغائه.

أما في فرنسا التي ثارت فيما ثارت على سلطة الكنيسة سنة 1789 وتوصلت لإقرار قانون العلمانية المتشددة سنة 1905، وبالتالي أبعدت رجال الدين عن أي موقع ذو تأثير سياسي أو حتى ثقافي، نجدها اليوم، ومع بزوغ القرن الحادي والعشرين، ورغم تحويلها العلمانية من ممارسة ديمقراطية ترفع يد الدين عن الدولة ويد الدولة عن الدين، إلى عقيدة متشددة تُشعر بعضًا من مواطنيها بالتهميش وبالتنميط، نراها تستعين ببعض الأفراد لفرضهم على الساحة.

أبرز هذه النماذج اليوم هو الإمام حسن الشلغومي، وهو آتٍ من خلفية دعوية ظلامية أوصلته لدرجة الخطر الأمني المحدق، فتم استغلاله ليصبح بوقًا يُكرر ما يريده مشغلّوه من ترّهات بعيدًا عن أي منطق إنساني أو وازعٍ أخلاقي. وأكثر ما اشتهر به هو لقطة يجتمع فيها الغباء بالجهل حينما شارك في مسيرة دعم صحيفة "شارلي ايبدو" الساخرة، بعد تعرّض أفراد إدارة تحريرها للقتل الوحشي من قبل إرهابيين متطرفين، حينما سألته محطة تلفزية عن مشاعره، فقال إنه "حزينٌ جدا، لأنه كان يعرف شارلي شخصيًا ويحبه". وتتكرر الهنّات له في كل وسائل الاعلام من دون أن يشعر لا هو ولا مشغليه بأي حرجٍ.

بعيدًا عن أسبابه ومبرراته الانتهازية، يحار المرء من أهداف مشغليه وناشريه ومسوقيه. فهم مبدئيًا ليسوا بنفس درجة السذاجة، حتى لا نذكر الغباء، التي يتمتع بها. ومن المحتّم بأنهم درسوا عديدًا من النماذج المعروضة والمستعدة للعب دورٍ مماثل. الشلغومي يُدعى إلى كل محطات التلفزة ليتحدث ـ كما يقولون ـ باسم الإسلام المعتدل والمنفتح. بالمقابل، فإن درجة جهله وقدرته الخارقة في تحريض السخرية وعدم معرفته بألف باء اللغة الفرنسية، تجعل منه مهرجًا يُضحك للوهلة الأولى من يتابعه، على ان يتحول ضحكهم الى حسرة لأنه يُقدّم على أنه "الممثل الوحيد والشرعي" للإسلام المنفتح والمؤمن بـ "مبادئ الجمهورية"، إعلاميًا وسياسيًا. ولربما إن سُئل عن الجمهورية، فسيخالها سيدة سيتغنى بحسنها وجمالها.

فرنسا تعجّ بالمسلمين المتدينين المتنورين والمؤمنين حقًا بمبادئها وبقيمها الجمهورية والديمقراطية. لكن أغلبهم مُغيّب عن الإعلام وعن المشهد السياسي. ويكاد المراقب أن يعتقد بإصرار بأن هذا الاختيار مقصود لإظهار جهلٍ مرضيٍ يُرضي من يبحث عن تشويه الإسلام المعتدل والمنفتح. إنه سعيٌ لتهميش من يسميهم الامام محمد حسن الأمين بالعلمانيين المؤمنين. فهو يضع أمام المتلقي خيارين لا ثالث لهما بين المتطرف الظلامي من جهة وبين المهرّج المضحك / المبكي من جهة أخرى. هذا النموذج التهريجي قام بزيارات عدة لإسرائيل وتم تسويقها على انها انفتاح واعتدال لمجرد مصافحته لناطقين باسم جيش الاحتلال ومباركته لجنود الاحتلال. هو إذًا يقوم بدوره على أتم وجه كما ورد في دليل التشغيل الذي أرفق به.

ما يغيب عن ذكاء المُشغّل بأن هذا الاختيار وهذا الترويج يبعثان برسالة ملغومة لسائر الجيل الشاب من الفرنسيين المسلمين. فهو يُنمطهم ويجعل مهرجًا ناطقًا باسمهم رغمًا عنهم. ويجعل ممن لا يعرف التمييز بين العصا والألف، متعممًا إعلاميًا تفتح له نشرات الاخبار وصفحات الجرائد، في حين تُغيّب الأصوات المتنورة فعلاً. فهل هم من يتحمل المسؤولية إن هم تطرّفوا يومًا ولم يجدوا أنفسهم في قيم الجمهورية؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها