الأربعاء 2023/11/15

آخر تحديث: 15:52 (بيروت)

غزة مسألة العالم

الأربعاء 2023/11/15
غزة مسألة العالم
أطفال جرحى نتيجة القصف الإسرائيلي على جباليا (غيتي)
increase حجم الخط decrease
في مقدمة كتاب "تفكيك الصهيونية: نقد ميتافيزيقيا سياسية"، يكتب الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو، عن تحوله من الدعم الكامل لإسرائيل إلى معارضة الصهيونية بأشكالها، ويضيف: "هذا العداء للصهيونية نضج لديّ بالتوازي مع تبدد إيماني بالغرب". وفي علاقة مباشرة بما يحدث اليوم، فإن فاتيمو يطلق في المقدمة نفسها للكتاب، الصادر قبل حوالى عقدين، نبوءة قيد التحقق، وهي أن قضية غزة ساهمت بشكل حاسم في أن معضلة دولة إسرائيل القائمة، قد لا تشهد حلاً سوى بالإبادة المستمرة للفلسطينيين. هنا يوثق فاتيمو علاقتين حتميتين، الأولى بين تبدد الإيمان بالغرب بتبدد دعمه إسرائيل، والثانية بين إسرائيل والإبادة الفلسطينية التي وإن كانت بطيئة فهي دورية وممتدة ولها صفة التراكم اليومي.

نسبة إسرائيل إلى الغرب، أقدم من إسرائيل نفسها. يضع هرتزل في كتاباته الصهيونية الأولى، تلك المقارنة بين خيارات اليهود الموزعة بين وطن في فلسطين، أو وطن في مكان آخر. وفي ترجيحه للخيار الأول، يضع تصوراً واضحاً للوطن اليهودي كنقطة دفاع أول للغرب و"الحضارة" ضد البربرية (وسكان المنطقة بالضرورة). لكن، وبعيداً من لحظة التأسيس وما قبل التأسيس، وبعيداً من إسرائيل الغربية كفكرة مجردة، فإن الواقع العملي لدولة إسرائيل اليوم يقول أنها واقعة بالضبط عند تقاطع القوى والنزاعات العالمية، كرمانة الميزان للقوى الغربية، في مواجهة الوجود الروسي في الجوار السوري، والتمدد الإيراني، بالإضافة إلى التأثير الصيني المتصور في المستقبل.

لكن هذا كله لم يكن بالضرورة ما قصده فاتيمو بالعلاقة بين الغرب والصهيونية. فبعد الهولوكوست، لم تعد المسألة اليهودية مجرد قضية أقلية مشتتة في أوروبا، بل صارت سؤالاً يتعلق بالتاريخ العالمي بإجماله، أي أن فكرة التاريخ المتمركزة حول الغرب، التاريخ بوصفه تقدماً إلى الأمام، صار بفعل المحرقة على المحك. هكذا، فإن الغرب الذي فقد فاتيمو إيمانه به، هو ذلك التجريد، أي التقدم الخطّي إلى الأمام، فكيف يمكنه الإيمان بهذا التقدم أمام الجريمة الأصلية لتأسيس إسرائيل، وما واكبها من تطهير عرقي للفلسطينيين.

الهولوكست أصبح ماضياً بعيداً، والصهيونية نفسها مجرد أيديولوجيا هامشية بين أيديولوجيات عديدة توظفها الدولة الإسرائيلية حين تحتاجها، وبحسب الجمهور. أما ما يثير التساؤل حول التاريخ في هذه اللحظة، أو بمعنى آخر مستقبل العالم، فهو ما يجري في غزة الآن، وعلى مرأى من الجميع، وعلى الهواء مباشرة، بدعم كامل من الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية. كيف يمكن، إلى اليوم، أن تُرتكب مثل هذه الفظاعات بينما يجري الحديث من دون مواربة عن تطهير إثني كامل، وبتواطؤ كامل من النظام العالمي؟ بهذا المعنى، فإن غزة مسألة العالم، وهو معنى واحد بين معانٍ كثيرة.

نشأت إسرائيل كدولة قومية في اتجاه معاكس لتاريخ حركات التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية. فعلى خلاف الدول التي تأسست حينها على أساس نزع الاستعمار، تأسست الدولة الصهيونية كمشروع استعماري استيطاني، استعمار ما بعد استعماري. وبهذا صار الفلسطينيون، بصورة ما، ومن دون اختيار بالطبع، مُستعمَرون ما بعد حداثيين. ارتبط استعمار ما بعد الاستعمار هذا، بصعود الاستعمار الجديد لاحقاً، بل صار في المركز إيديولوجياً وعملياً. ما يبدو مباحاً اليوم في غزة، وفي فلسطين بإجمالها، هو مصير الشعوب المضطهدة التي تقع تحت طائلة الاستعمار الجديد لرأس المال المعولم والمتمركز في الولايات المتحدة. ولهذا تكون غزة اليوم هي مسألة العالم.

الحال أن جنسيات الذين سقطوا في إسرائيل في هجوم السابع من أكتوبر، والرهائن المحتجزين في غزة من مزدوجي الجنسية والعمال المهاجرين من شرق آسيا، لها دلالاتها، وتعيد إلى أذهاننا مرة أخرى حقيقة أن إسرائيل لم تعد، وبالأحرى لم تكن يوماً، مشروعاً قومياً خالصاً. بل إنها تأسست على تقاطعات الدين مع القومية مع العولمة، عولمة "حق العودة" الأولى، وعولمة حرية حركة البشر ورأس المال اللاحقين. عولمتان ممكنتان فقط على حساب حرمان الفلسطينيين من أي حق في المواطنة البسيطة في أرضهم، وعلى حساب شتاتهم القسري خارجها. بهذا المعنى تكون غزة مسألة هذا العالم وعولمته على الجانبين.

يبرز عجز الشعوب العربية عن الفعل وحتى عن الاحتجاج، مقارنة بالمظاهرات التي تجوب العواصم الغربية بمئات الآلاف، ويهود الضمير المتصدرين لتلك الاحتجاجات، إضافة إلى الاستقالات والإقالات من المناصب الحكومية ومن الأحزاب الحاكمة والمعارضة في الولايات المتحدة ودول أوروبية، على خلفية الموقف من الحرب في غزة... كل هذا ينفي التقسيمات البسيطة والمخلة على خطوط شرق وغرب، وشمال وجنوب، ويؤكد لنا كيف أن غزة صارت مسألة هذا العالم.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها