السبت 2023/10/07

آخر تحديث: 06:38 (بيروت)

أميركا..جذور أزمة السلطة

السبت 2023/10/07
أميركا..جذور أزمة السلطة
increase حجم الخط decrease

في سابقة لم تشهدها الولايات المتحدة طوال تاريخها، صوّت مجلس النواب الأميركي على عزل رئيسه الجمهوري كيفن مكارثي لتزيد حالة الفوضى التي يعيشها الكونغرس المنقسم عموديًا بين الحزبين الكبيرين ويتفاقم العقم السياسي في نظام طالما تباهى بثباته ومرونته وقدرته على صياغة التسويات البراغماتية والتي صارت ميزات لا اجماع عليها بعدما توّج دونالد ترامب جنوح المحافظين نحو التطرف بوصوله الى البيت الأبيض عام 2017، واعتماده مبدأ الكيد الذي أطاح في سنوات قليلة ما راكمته واشنطن من سلوك مسؤول وتراث مؤسسي في سياق دستوري يعكس غالبًا تطور توجهات الرأي العام وينبذ التزمّت والتهور.

المفارقة اللافتة في الدراما الراهنة أن اطاحة ارفع منصب رسمي للمحافظين تم بأيدي المحافظين انفسهم لأن الفئة الأكثر تطرفًا منهم رفضت تسوية تشريعية قام بها مكارثي لتفادي تعطيل الحكومة الفدرالية التي كانت على وشك التوقف القسري عن العمل في وزارات وبرامج حيوية نتيجة عدم إقرار موازناتها في الكونغرس، ومع أن القانون لبّى بعض مطالب المتطرفين تمسكوا بموقفهم فصوتوا ضده، وباشروا فور اقراره إجراءات العزل، ولم ينجح مكارثي في تأمين الأصوات الكافية في حزبه للبقاء في منصبه، وكانت أصوات ثمانية نواب جمهوريين كافية لعزله بعدما رفض الديمقراطيون إنقاذه. ولم تكن تلك المواجهة وليدة اللحظة، فمنذ انتخابات 2022 التي أعطت الجمهوريين غالبية ضئيلة جدًا في مجلس النواب برز الدور الكبير لمجموعة تضم 14 عضوًا من أشد أنصار ترامب الذين فرضوا على مكارثي شروطًا قاسية للقبول بانتخابه مطلع العام الحالي، وواصلوا تصعيدهم وصولًا الى عزله لتجد أميركا نفسها للمرة الأولى بلا رئيس للسلطة التشريعية، وبالتالي شلل الكونغرس وفقدان الحلقة الثانية في خلافة رئيس الدولة، حيث ينص الدستور على ان رئيس المجلس هو في المرتبة الثانية بعد نائب الرئيس في حال شغور المنصب الأول لأي سبب، وما يعمق من المشكلة أنهم لا يمتلكون برنامجًا تشريعيًا للنقاش ولا يريدون سوى تعطيل الحكومة وافشال الإدارة بأي ثمن حتى ولو كان ذلك يعني إطالة امد الشغور.

ولا يقتصر التعطيل الكيدي على مجلس النواب وحده، ففي مجلس الشيوخ ذي الغالبية الديمقراطية يستغل بعض الأعضاء الجمهوريين النظام الداخلي لعرقلة الإدارة، والمثال الأبرز على ذلك موقف حليف آخر لترامب هو السيناتور تومي توبيرفيل(من ولاية الاباما) الذي يرفض تزكية أي مرشح للمناصب القيادية في القوات المسلحة والتي تتطلب موافقة المجلس قبل التعيين، ومع أن المسألة كانت على الدوام روتينية وتمر بلا سجال كونها ترقيات روتينية في قطاع يلقى اجماعًا من الحزبين، تعمّد السيناتور الذي لم يخدم في السلك العسكري تحويلها الى قضية خلافية أدت حتى الآن على تجميد ترقيات 260 ضابطًا بينهم أصحاب مواقع حساسة، فيما بدأ أعضاء آخرون في اعتماد المقاربة نفسها في وزارات أخرى. وتتلخص المعضلة في أن اعتراض عضو واحد يعني طرح اسم كل مرشح بمفرده للتصويت مما يعني تعطيل المجلس عمليًا لأن المئات من المرشحين يحتاجون الى تزكية، والتصويت على كل واحد منهم سيستغرق شهورًا لإنجازه.

وبين المجلسين يحقق ترامب يوميًا المزيد من المكاسب الإعلامية والشعبوية وهو يخوض معركتين متلازمتين؛ الأولى قضائية حيث بدأت إجراءات محاكمته في نيويورك بتهم الإحتيال الجنائي والتي يبدو انها ستتداخل مع محاكمته في القضايا الثلاث الأخرى بتهم الإحتفاط بالوثائق السرية، ومحاولة الإنقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية، والتآمر لتزوير نتائج الانتخابات في ولاية جورجيا. ويستخدم ترامب مقاضاته لرفد معركته الثانية للفوز بترشيح الحزب الجمهوري له لإنتحابات الرئاسة المقبلة، وهو الإحتمال الأكثر ترجيحًا كونه يتقدم جميع منافسيه بنسب كبيرة، والأنكى أن أزمة مجلس النواب أعادت الى الواجهة فكرة انتخابه رئيسًا لمجلس النواب لأن القانون لا يحصر هذا المنصب بالأعضاء المنتخبين، وهذه الفرضية على ضآلة حظوظها بالتحقق تشكل هاجسًا جديًا، خصوصًا وأن الجمهوريين اثبتوا تحت زعامته قابليتهم للمفاجآت غير المألوفة.

ما جرى ويجري في الكونغرس ليس خلافًا موضعيًا، فهو بجميع المقاييس أبرز تجليات الأزمة الدستورية التي تشهدها أميركا منذ أعوام والتي تضع علامة استفهام كبيرة على مستقبل النظام ككل في ظل تخلي النخب المحافظة عن أبسط مبادئ العمل السياسي السائد منذ قيام الدولة وتسامحها تجاه السلوكيات الإستبدادية التي تريد التحكم بالشأن العام دون مراعاة الأصول الديمقراطية التي أصبحت ترى فيها تهديدًا لإمتيازات الكتلة البيضاء ذات الأصول الأوروبية المستاءة من اندماج الأقليات الملونة والمهاجرة في المجتمع ومشاركتها في صناعة القرار، لذلك لجأ المحافظون الى خطوات نافرة لحرمان شرائح كبيرة من التصويت من خلال ترسيم دوائر انتخابية تضمن فوز مرشحي اليمين والطعن بنتائج الانتخابات، دون مبرر أو سبب، واستخدام القضاء لوقف تنفيذ السياسات الفدرالية، ومنع الكونغرس من إقرار تشريعات تعالج المشاكل المعقدة مثل الهجرة والإجهاض والتعليم الرسمي والحقوق المدنية.

يتمثل جذر الأزمة في تقديم المعطى العنصري على ما عداه، تمامًا كما حصل في أوروبا قبل قرن من الزمن، والتركيز على تثمير مشاعر الخوف من "الآخرين" والتي بدأت أيام رونالد مع تعميم مقولة "الرجل الأبيض الغاضب"، والتماهي مع الأنظمة الأحادية وتمجيد إنجازاتها، وهو ما يتجلى في تعاطفهم مع فلاديمير بوتين في روسيا وفيكتور اوربان في هنغاريا وجيورجيا ميلوني وقبلها سيلفيو بيرلسكوني في إيطاليا، وأحزاب اليمين المتطرف في الدول الإسكندنافية، ودعمهم وتمويلهم لشخصيات أميركية مشابهة أمثال ترامب ورون ديسانتس وكيري ليك ومارجوري تايلر غرين ومات غيتز وغيرهم ممن يتحدثون صراحة عن سعيهم لـ "إبقاء" أميركا بيضاء ومسيحية، وهذا السلوك يهدد التجربة الأميركية التي قامت نظريًا على الدستور والمساواة وتداول السلطة.

مرّت الولايات المتحدة خلال أكثر من قرنين بتحديات كيانية تمكنت من مواجهتها سلميًا داخل المؤسسات الدستورية باستثناء القضية العنصرية الأبرز وهي العبودية التي تسبب السعي لإزالتها الى انقسام اداري وحرب أهلية طاحنة عام 1860،اسفرت عن أكبر عدد من الضحايا في كل الحروب الأميركية، والتي يجاهر الكثيرون بالتحذير من مغبة استئنافها في ظل الإنقسام الراهن، والغريب أن الكثير من متطرفي اليمين يدعون الى خوضها من جديد، وهو ما يطرح سؤالًا منطقيًا عن مدى قدرة الإدارة الحالية والنخب المعتدلة والليبرالية على تفاديها. ربما ستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024، مؤشرًا بارزًا على الجواب.    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها