الأحد 2023/10/22

آخر تحديث: 11:37 (بيروت)

إسرائيل تستنزف يهود أميركا بعد طوفان الأقصى

الأحد 2023/10/22
إسرائيل تستنزف يهود أميركا بعد طوفان الأقصى
increase حجم الخط decrease
فشلت الحملة التعبوية الضخمة التي اطلقتها القوى المؤيدة لإسرائيل في أميركا، بعد عملية طوفان الأقصى، في تحقيق أهدافها، وبدا أن الإستنفار الشامل التي قادته المؤسسات الصهيونية اليهودية والكنسية معًا وارادته بمفعول رجعي، أدى الى نتائج عكسية وقوبل بفورة غضب غير مسبوقة في الأوساط المناهضة للإحتلال وخصوصًا بين اليهود الأميركيين الذين نظموا مسيرات واحتجاجات في كافة المدن الرئيسية، مع تركيز واضح على معاقل السلطتين التنفيذية والتشريعية في واشنطن وفي عواصم الولايات الكبيرة.

أراد مؤيدو إسرائيل أصحاب النفوذ والعلاقات والخبرة الطويلة في العمل العام، جعل الهجوم العسكري الذي شنته حماس والفصائل المتحالفة معها على غلاف غزة، وأدى الى مقتل عدد لا مثيل له، في أية مواجهة أخرى، من الجنود والمستوطنين والمدنيين، نقطة تحول بارزة في مسار الدعم الأميركي لدولة الاحتلال وتجاوز حالة الفتور التي سادت بين واشنطن وتل أبيب مؤخرًا، والأهم إستعادة زمام المبادرة شعبيًا، وترهيب التيارات الشبابية والتقدمية المناوئة للإحتلال، وإعادة الناشطين اليهود الأميركيين الى بيت الطاعة الصهيوني، خصوصًا وأن الهجوم أتاح لهم بسهولة لعب دور الضحية البريئة المتمدنة والحضارية في وجه "متوحشين متعطشين للدماء".

هذه الحملة الهائلة التي اتخذت اشكالًا نافرة من العويل والندب، المصحوبين بالكذب والمبالغة والتحريض السافر، والتي نجحت فورًا في  كسب المستويين الحكومي والإعلامي فتحول البيت الأبيض الى فرع للحكومة الإسرائيلية وناطق باسم جيش "الدفاع" والمستوطنين، ودفعت الرئيس جوزيف بايدن الى الكذب علنًا أكثر من مرة قبل أن يقوم بزيارته الميدانية الى إسرائيل وهي أول زيارة لرئيس أميركي الى منطقة حرب  دون ترتيبات مسبقة مع الطرفين، وأجبرت وزارة الخارجية على سحب تصريحات وبيانات تدعو الى التهدئة أو وقف اطلاق النار، فيما كانت وسائل الإعلام الكبيرة تتحول الى ابواق عسكرية على مدار الساعة وتسوّق للمجزرة الإسرائيلية المتدحرجة وتبررها مسبقًا، لكن ردة فعل المناوئين للإحتلال، خصوصًا الشخصيات والمؤسسات اليهودية الأميركية وفي الجامعات، كانت على مستوى الحدث وتصدت لحملة التهويل كاشفة الجوانب الإنتهازية والابتزازية فيها، فبادرت الى تنظيم أوسع حملة تضامن مع غزة والشعب الفلسطيني فارضة حضورها على السياسيين والإعلام.

ميدانيًا، وتحت عنوان" كلنا الى الشارع" أطلقت منظمات "صوت يهودي من أجل السلام" (Jewish Voice for Peace) و"أن لم يكن الآن" (If Not Now) و"ساتمار" (Satmar) والمجلس الأميركي لليهودية (American Council for Judaism) بالتعاون مع المؤسسات العربية الأميركية والمنظمات الصديقة لها، سلسلة تظاهرات حاشدة ووقفات احتجاجية واعتصامات، كان ابرزها أمام البيت الأبيض وداخل منى الكابيتول مقر الكونغرس، حيث تم اعتقال المئات من المتظاهرين وبينهم عدد من الحاخامات والشخصيات المعروفة. كذلك تصدت تلك المنظمات للمسيرات الصهيونية في مدينة نيويورك التي تضم أكبر تجمع سكاني يهودي بعد إسرائيل.

إعلاميًا لم تنجح سياسة الإنحياز الكامل لإسرائيل في حجب الأصوات المعارضة للحرب، ومعظمها من اليهود الذين شاركوا في مقالات واطلالات ومشاركات الكترونية ركزت على أن أساس المشكلة في الاحتلال، وعلى عرقلة اليمين الإسرائيلي لكل مساعي السلام وامعانه في التضييق العنصري على الفلسطينيين، كما نشرت الصحف عشرات من رسائل القراء بالمعنى نفسه، ولم تتمكن وسائل الإعلام من تجاهل التحركات المتضامنة مع فلسطين، وكان لافتًا الموقف المعلن للدكتور اليهودي الكندي المولود في بودابست وأحد الناجين من المحرقة غابور ماتي   والذي وصف الاحتلال الإسرائيلي بأن أطول عملية تطهير عرقي في القرنين العشرين والحادي والعشرين وقال اذا ضاعفت أسوأ شيء فعلته حماس ألف مرة لن يصل الى مستوى القمع والقتل والتشريد الإسرائيلي للفلسطينيين، كذلك كان ملفتًا توازن وموضوعية تغطية معظم الصحف اليهودية الأميركية مقارنة بنظيراتها الأميركية.

أكاديميًا شهدت المعاهد والجامعات مسيرات ووقفات احتجاج ونشاطات طلابية تضيء على الإرتكابات الإسرائيلية في غزة والضفة و تدعو الى وقف فوري لإطلاق النار، واجتذبت هذه التحركات تعاطف المزيد من الطلاب ما اثار غيظ كبار المتمولين الصهاينة المؤيدين للإحتلال، وفي قضية تعكس مدى تعاظم التضامن مع فلسطين، بادر عدد من كبار المتبرعين اليهود لجامعة بنسلفانيا العريقة ومنهم رونالد لاودر ومارك روين الى إعلان وقف تبرعاتهم للجامعة  لأنها لم تمنع سلسلة نشاطات مؤيدة للقضية الفلسطينية، لكن مجلس شيوخ الجامعة رد على تلك الدعوات بغضب واعلن رفضه لترهيب الطلاب والهيئة التعليمية "لأن الحرية الأكاديمية لا تباع وتشترى من قبل الذين يريدون استخدام ثرواتهم لتحديد مهمتنا".

فنيًا، كانت الخيبة الأكبر لأنصار إسرائيل. حاول عدد من المنتجين والإداريين في هوليوود بقيادة الملياردير الصهيوني حاييم صبّان صاحب النفوذ الكبير في قيادة الحزب الديمقراطي، أن يستخدم النجومية والشهرة للتأثير على المشاهدين والجمهور فدبّجوا رسالة تضامن مطلق مع إسرائيل عمموها على الفنانين والممثلين والمخرجين، لكنها لم تحصل على توقيع أي نجم من الدرجة الأولى وكان أبرز الموقعين عليها الإسرائيلية غال غادوت وبعض الذين أفل نجمهم لسنوات أمثال جيري ساينفيلد ومايكل دوغلاس وجايمي لي كيرتس وهيلين ميرين وعدد من اتباع الديانة اليهودية، ما دفع المنظمين الى فتح باب التوقيع امام من يشاء لينضم المئات من الكومبارس والحدادين والنجارين والسائقين والطباخين، ليقال أن الرسالة حصلت على ألف توقيع.

لم يكن التصدي للحملة المؤيدة لإسرائيل بلا جدوى. كثير من السياسيين والنواب والشيوخ اضطروا أمام الرفض الشعبي للدعاية الصهيونية الى تعديل مواقفهم الأولى الداعمة بالمطلق لإسرائيل والحديث عن ضرورة خفض التصعيد وحماية المدنيين بمن فيهم الفلسطينيين، حتى أن الرئيس بايدن نفسه عدّل من لهجته وحماسه في الكلمة المتلفزة الثانية التي وجهها للأميركيين بعد عودته من زيارة إسرائيل. ففي الكلمة الجديدة تحدث بايدن عن الفلسطينيين وعن المدنيين في الجانبين وعن ضرورة عدم الإنقياد للحقد والإنفعال وكل ذلك لم يرد في كلمته الأولى. لم تعد المعارضة اليهودية لسياسات إسرائيل تقتصر على السيناتور بيرني ساندرز او المفكر نعوم تشومسكي. تتسع دائرة هذه المعارضة باضطراد، ولعل فشل مؤيدي إسرائيل في انتهاز فرصة طوفان القدس مؤشر بارز على تحول جذري في آليات العلاقة بين أميركا وإسرائيل.

بعد حرب حزيران 1967، التي أظهرت إسرائيل كدولة عظمى في الشرق الأوسط، خرجت تظاهرات حاشدة في المدن الأميركية تأييدًا لها. ردد المشاركون في تلك التظاهرات هتافًا موحدًا "اقتلوهم جميعًا" والجميع هم الفلسطينيون والعرب. لم تقم في ذلك الحين أية تظاهرة تندد بالعدوان والإحتلال. الصورة تختلف الآن جذريًا، وتبشر بالمزيد من انحسار الولاء الأعمى لكيان متجبر. فهل هذا تكرار لما حصل مع جنوب افريقيا، الطفل المدلل الآخر لأميركا، في الثمانينات من القرن الماضي؟



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها