الإثنين 2023/10/02

آخر تحديث: 05:21 (بيروت)

أميركا تعترف بعرَبها..مواربة

الإثنين 2023/10/02
أميركا تعترف بعرَبها..مواربة
increase حجم الخط decrease

... أخيرًا، وبعد طول انتظار، وبعد سنوات من السعي المؤسسي والإلتماس السياسي إعترفت الولايات المتحدة إحصائيًا بالوجود الديمغرافي العربي فيها، في محطة مهمة رسميًا على درب الإعتراف الكامل بالعرب الأميركيين كجماعة اثنية مميزة، يعود تاريخها الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولها رغم ضآلة حجمها اسهامات ثقافية وفنية واجتماعية وسياسية وعلمية مرموقة، في الوقت التي تواجه فيه تحديات غير عادية، منذ حلّت بجدارة في عين العاصفة التي هبت في مستهل الحرب الباردة وتعاظمت بعدها، ولا تزال تردداتها قائمة وواضحة.

ففي أول بيان رسمي من نوعه يصدر عن مكتب الإحصاء الفدرالي جرى تصنيف السكان ذوي الأصول العربية والمهاجرين أو المنحدرين من الدول العربية في خانة أطلق عليها رمز (MENA) وهو يمثل الحرفين الأولين لكل من الشرق الأوسط (Middle East) وشمال أفريقيا (North Africa). ومع أن هاتين المنطقتين هما موطن العرب، احتوى التصنيف على إضافات كيانية وعرقية ذات مصدر جغرافي فشمل حاملي الجنسية الإيرانية والإسرائيلية (بمن فيهم ذوو الأصول العربية)، كذلك أدرج الأكراد والأيزيديين والآشوريين والسريان والبربر (ولم يأت على ذكر الأرمن)، فيما اورد الدروز والبدو كفئتين مشمولتين في الإحصاء.

بلغ العدد الإجمالي للفئة الجديدة 3.522.478 نسمة، وحوالي النصف منهم منحدر من ثلاث دول، لبنان 20% (685.672)، ايران 16% (413.842) ومصر 12% (313.720)، فيما تجاوز عدد كل من السوريين والعراقيين والإسرائيليين والفلسطينيين والمغاربة والأردنيين المئة الف نسمة، ولحظ البيان وجود سكان من جميع الدول العربية بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، وأورد عدد المجموعات العرقية والدينية كالتالي: الأشوريون (42.372)، البربر "الأمازيغ" (1750)، الكلدان (47.290)، الأكراد (19.755)، السريان (1670)، الأيزيديين (444)، أما التوزيع الجغرافي داخل أميركا فتركز معظمه في عشر ولايات هي بالترتيب  كاليفورنيا (740.219)، ميشيغن، نيويورك، تكساس، فلوريدا، الينيوي، نيوجرسي، فرجينيا، أوهايو وماساتشوستس، ويتجاوز العدد في كل منها المئة ألف نسمة. وأظهر البيان أن الغالبية الواضحة من المشمولين بالإحصاء (68%) هم دون الخامسة والأربعين من العمر، و11% فقط فوق الخامسة والستين (السن الرسمي للتقاعد).

يحتوي البيان الذي تحول الى رابط ثابت في صفحة مكتب الإحصاء، على كثير من التفاصيل العددية والديمغرافية الدقيقة، وجاء في مقدمته التوضيحية أن مكتب الإحصاء باشر بعد تعداد 2010 في توزيع استمارات تفصيلية عشوائية على المشاركين الذين عرّفوا انفسهم كمواطنين بيض، (وهو التعريف الذي كان حتى التعداد الأخير عام 2020 يشمل السكان المنحدرين من المنطقة الممتدة من افغانستان وحتى فلسطين مرورًا بالجزيرة العربية) لإستيضاح تفاصيل أكثر عن خلفياتهم الأصلية، واحتوت تلك الإستمارات على سبع خانات جديدة هي الماني، ايرلندي، إنكليزي، إيطالي، لبناني، مصري، و(MENA) وان احتساب الفئة الأخيرة ارتكز الى معطيات جغرافية واثنية ولغوية ودينية.

لا تعكس اللغة التقنية المحايدة التي استخدمها البيان حقيقة الموقف، فالعرب الأميركيون منذ نضوج تجربتهم المؤسسية في ثمانينات القرن الماضي دأبوا على المطالبة بتخصيصهم بخانة منفصلة في بيانات الإحصاء لأنهم يمثلون جماعة اثنية وثقافية مختلفة عن التصنيف المعطى لهم كبيض. لم يكن الدافع الى هذا المطلب رمزيًا أو معنويًا فقط، بل انطلق من الواقع الأميركي الذي يعتمد اللامركزية على أوسع نطاق مما يجعل التصنيف الإثني غاية في الأهمية للحصول على حصص محددة وكافية من البرامج الحكومية على المستويات الفدرالية والإقليمية والمحلية، وهي برامج بمليارات الدولارات سنويًا تشمل نواحي الإستثمار والتنمية والتعليم والثقافة والصحة وفرص العمل والخدمات الاجتماعية والوقائية والتمكين، ومن البديهي أن تضيع كل هذه الموارد عندما تكون معممة على النسبة السكانية الأكبر، وهم البيض ذوي الأصول الأوروبية، ولا تكون مقيدة بشروط صرف تفصيلية تلحظ الأقليات السكانية، خصوصًا المهاجرة حديثًا.

قوبل المسعى العربي الأميركي منذ البداية بعائقين كبيرين ساهما في تهميشه واضعافه؛ تمثل الأول في الإنقسام الداخلي حول الهوية العربية، حيث تزامن الصعود المؤسسي العربي في أميركا مع ارتفاع هائل في منسوب النزاعات البدائية في العالم العربي الذي شهد في ذلك الحين الحرب الأهلية في لبنان والحرب العراقية الإيرانية وإنشطار ما بعد اتفاقية كمب ديفيد، ألقى كل ذلك بثقله على العمل المؤسسي خصوصًا وأن الفئات الأكثر فعالية ومشاركة في العمل العام تنتمي أقليات اثنية ودينية عربية (مسيحيو وأرمن لبنان وسوريا، آشوريو وكلدان العراق، والشيعة)، و في كل واحدة منها شرائح نافذة ترفض، ولأسباب تاريخية أو مشاعر مستجدة، القبول بالهوية العربية كمظلة كبيرة فوق الجميع، اما العائق الثاني والأكثر فعالية فكان الرفض الصهيوني الأميركي الذي يجمع انصار إسرائيل من يهود ومسيحيين، للقبول بالعرب كجماعة اثنية معترف بها رسميًا، ليس من باب النكاية والكيدية فقط، لكن لأنهم يعرفون أن ذلك سيسّهل المسعى المؤسسي وسيشكل رافدًا مهمًا جدًا للحضور الإنساني والسياسي لكتلة بشرية صاعدة تضع قضية فلسطين في مقدمة أولوياتها.

كثير تغير منذ تلك الحقبة، وعلى الرغم من الظروف المعاكسة ومن الصدمات السلبية الهائلة، وخصوصًا الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول 2001، والتي شكلت التحدي الأكبر على الاطلاق، تمكن العرب الأميركيون من انقاذ هويتهم الشاملة واثبت الشباب والصبايا خصوصًا من الجيلين الثاني والثالث حضورهم بكفاءة عالية وشاركوا بفعالية في الحياة السياسية نشاطًا وترشحًا واقتراعًا، ورفضوا قبول الدونية أو مركبات النقص التي حاولت المؤسسات الدينية تعميمها من خلال الترويج لمقولات الوجود المؤقت، أو حتمية العودة من "أرض الكفر" الى الوطن الأم و"كنف الأمة"، وترجموا ذلك في الحضور الإنتخابي الفاعل الذي لم يعد بإمكان الحزبين الكبيرين والمسؤولين المنتخبين تجاهله، خصوصًا في الولايات المتأرجحة الولاء التي يحظى فيها الصوت العربي الأميركي بوزن مرجّح. 

المؤسسات العربية الأميركية رحبت بخطوة مكتب الإحصاء، وقال المعهد العربي الأميركي، الذي لعب لسنوات طويلة دورًا رياديًا في المطالبة بالإعتراف الرسمي بالعرب الأميركيين، في بيان أصدره في واشنطن العاصمة أنه على الرغم من يقينه بأن ارقام التعداد ليست دقيقة تمامًا فان بادرة المكتب خطوة هائلة في الاتجاه الصحيح ودعا الى معالجة استمارة الإحصاء في الدورات المقبلة للحصول على بينات أكثر دقة. والى أن تتم تنقية الإحصاء من الشوائب والزوائد المميعة للهوية الرسمية للعرب الأميركيين، سيكون عليهم مواصلة السعي الدؤوب لتثبيت حضورهم الأميركي، كجزء طبيعي من العالم الجديد، دون خسارة الإنتماء الإنساني للوطن الأم.


     

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها