الأربعاء 2023/01/18

آخر تحديث: 06:10 (بيروت)

مصر.. رجل العرب المريض

الأربعاء 2023/01/18
مصر.. رجل العرب المريض
سعر الصرف المتروك لآليات السوق، وصفة جاهزة للانهيارات المتتالية للعملة المحلية
increase حجم الخط decrease
الأسبوع الماضي، حذر أمين سر مجلس الأمة الكويتية، أسامة شاهين، حكومة بلاده من الانصياع إلى دعوات صندوق النقد الدولي، بضخ دول مجلس التعاون الخليجي 14 مليار دولار في صورة ودائع لدى مصر وقروض، لسد العجز في الميزانية العامة. وذهب النائب الكويتي أبعد من هذا، مطالباً بلاده باستعادة الودائع الكويتية، "المعطلة" بحسب وصفه في الخزانة المصرية، ومن باب الاحتياط حذر أيضاً من فتح الأبواب أمام العمالة المصرية.

ولا حاجة للقول أن هذه ليست المرة الأولى التي تصبح فيها مصر موضوعاً لجدل سياسي كويتي أو أن يوظف اسمها في مناكفات داخلية بين الحكومة والمعارضة. بشكل دوري، كانت مسألة العمالة المصرية محكاً لتلك المناوشات في البرلمان الكويتي والإعلام أيضاً. إلا أن تلك المرة الأخيرة تتوافق مع ترسخ صورة لمصر بوصفها رجل العرب المريض، الدولة العبء على كل مستوى، بالوعة القروض المفتوحة بلا قاع، وفائض الأيدي العاملة الذي يظهر كتهديد ولو من بعيد.

يأتي تحذير شاهين، على خلفية البيان الأخير لصندوق النقد حول دفعة القروض الجديدة لمصر. دعوات الصندوق أو توجيهاته المتكررة لتدخل الدول النفطية "الصديقة" لسد العجز المصري، تضعنا أمام أقلمة للأزمة المصرية المزمنة، صياغة للمعضلة ولحلولها وكأنها شأن إقليمي، شرعت تتسرب بشكل شبه رسمي إلى لغة بيانات المؤسسات الدولية.

"مصر أكبر من أن تترك لتسقط"، الشعار المكرر بشأن الشركات كما الدول، يحمل بعض الصدق، فالتبعات السياسية والاجتماعية جراء انهيار الاقتصاد المصري قد تكون فادحة على المنطقة كلها واستقرارها. المصلحة الخليجية أن تعبر القاهرة هذه الأزمة أو على الأرجح أن تتعايش معها، إلا أن المساعدة ليست مجانية تماماً. فالتورط الخليجي يحمل مكاسب ضمنية ربما تفوق أي خسائر مفترضة. تتوسع الصناديق السيادية الخليجية في شراء الأصول المصرية، والقاهرة مجبرة على البيع، وبأسعار ليست في صالحها بالضرورة. ما بين التمويل والإقراض والشراء والإيداع، تمتلك رؤوس الأموال الخليجية أوراقاً للضغط على صانع القرار المصري. وبمنطق دائري، فإن تأمين تلك الاستثمارات الخليجية وضمان حصد أرباحها الرأسالمية والسياسية، يتطلب دعم العواصم الخليجية للحكومة المصرية أو على الأقل الحفاظ على تماسكها.

مَن يقدم الضمانات لمَن. هل يضمن صندوق النقد، القاهرة، أمام أصدقائها العرب؟ أي يمارس دوره المعتاد كوكيل للمقرضين؟ أم أن استعداد الأصدقاء للتدخل مرة أخرى هو أحد الضمانات المقدمة للصندوق؟ في كل الأحوال، يكفي السؤال وحده، من دون الحاجة لإجابته، فتتضح أمامنا الصورة المتداعية للمكانة المصرية.

يعلن الصندوق لائحة التزامات مصرية، بعضها الاشتراطات المعتادة، التي إلتزمت بها القاهرة في السابق -وبشهادة تقارير الصندوق نفسه- ولم تقُد إلا إلى المزيد من تردي الأوضاع: أي الاستمرار في سياسات سعر الصرف المتروك لآليات السوق، وهي الوصفة الجاهزة للانهيارات المتتالية لقيمة العملة المحلية التي نشهدها بشكل دوري. وكذلك ربط أسعار الوقود والطاقة بالأسعار العالمية، وهو ما يعني قفزة إضافية مفاجئة في معدلات التضخم، وفي هذه النقطة تحديداً يبدو موظفو الصندوق مطمئنين للقبضة الأمنية وقدرتها على سحق أي احتجاجات شعبية في مواجهة معدلات مخيفة من الإفقار. وبالصورة نفسها، فإن بند رفع حصيلة مداخيل الدولة لن يتجاوز في مداه القصير سوى تعظيم ضريبة القيمة المضافة، المفروضة على المستهلك مباشرة.

أما الإملاءات الموجهة للنظام مباشرة، فتمس ضمناً أدوار المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في الاقتصاد، ومنظومة الصناديق الخاصة، وكذا وضع مكابح على وتيرة المشروعات القومية الاستعراضية. لا يشترط الصندوق انسحاب الجيش من الأنشطة الاقتصادية، بل يطالب بتقليم امتيازاته، أي الإعفاءات الضريبية والأسعار التفضيلية للطاقة. وفي ما يخص عوائد بيع أصول الدولة، يشترط شفافية الرقابة عليها في الخزانة العامة، بعيداً من الصناديق المغلقة.

للحكومات المصرية في الماضي، تاريخ طويل في التحايل على اشتراطات الصندوق، ومميزات الجيش الاقتصادية لا تقتصر على الضرائب وأسعار المدخلات، بل تتضمن العمالة شبه المجانية والأراضي، ومن ناحية أخرى تدير المؤسسات السيادية الكثير من ممتلكاتها عبر وسائط صُوريين وبملكيات غير مباشرة. وهكذا، من غير المرجح أن تحقق محاولات الصندوق لفرض معادلة تكافؤ الفرص الكلاسيكية، نجاحاً يذكر. والأغلب أن تلك الدفعة من حزمة "الإنقاذ" ستصب في اتجاهها المعتاد، أي مواصلة برنامج التقشف، بمعنى انكماش الخدمات العامة أكثر فأكثر، بالتوازي مع معدلات تضخم هائلة وضرائب أعلى، لصالح خدمة دَين تتضخم، وذلك في انتظار قصير للدورة المقبلة من الأزمات. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها