الأحد 2022/09/25

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

عمليات انتحارية..لا هجرة غير شرعية!

الأحد 2022/09/25
عمليات انتحارية..لا هجرة غير شرعية!
البحث عن ناجين من مركب الموت (غيتي)
increase حجم الخط decrease

حتى اليوم، لم يتوصل العلماء الى تفسير تلك الظاهرة المحيرة، المستمرة منذ فجر التاريخ، والتي تعرف بانتحار الحيتان، من فصيلتين أو ثلاث فقط، تخرج فجأة من مياه المحيطات، كمجموعات، أو "عائلات"، وترمي بنفسها على الشواطىء الرملية، حتى تلفظ أنفاسها الاخيرة. كانت هذه الظاهرة غير المألوفة في عالم الحيوان، لا سيما الثدييات، تشمل مختلف أنحاء الكوكب، لكنها، حسب الدراسات الاخيرة، تتركز الآن في الجزء الجنوبي من الكرة الارضية، وتشهد ما يشبه الهجرات الجماعية للحيتان من مياه القطب الجنوبي نحو السواحل الافريقية والاميركية والاسترالية.

الابحاث مستمرة، وهي تعزو الظاهرة الى أسباب مختلفة، أولها الخوف، والجوع ، والمناخ.. فضلا عن اعتداء الانسان وتقنياته الحديثة على بيئتها، ما يجعل الانتحار خياراً "واعياً"، ينم عن قدر مختلف من الكبرياء لدى الحوت، مثلما يعبر عن اليأس المطلق من توافر فرص العيش الطبيعي على الكوكب. هو طبعا خيار يعكس الضعف، والاستسلام، وهما شعوران غريبان، عن مملكة الحيوان.. لكنهما ليسا كذلك في مملكة البشر، الذين يلجأون الى الانتحار للاسباب ذاتها.

من هنا يجب أن يبدأ البحث في ظاهرة الانتحار الجماعي المروعة التي يسجلها لبنان هذه الايام، والتي تحمل أوجه شبه مذهلة مع ما تفعله الثدييات المائية الاكبر والأجمل والألطف، التي لا تعرف غالبية فصائلها سوى التآلف مع الانسان، والسكن بالقرب من بيئاته الطبيعية، حتى ولو تعرضت ظلماً للصيد الجائر منه. في الصور المفجعة، الملتقطة من شواطىء الشمال اللبناني، (والسوري) ما يحيل بسرعة الى صور التقطت على شواطىء أستراليا الغربية، قبل أربعة ايام بالتحديد، ل 230 حوتاً جديداً، إختار تلك الطريقة المحيرة من الموت .

الكلام عن موجة هجرة لبنانية-سورية فلسطينية، جماعية، تنتج تلك المأساة شبه اليومية، لم يعد دقيقاً، ولا مقنعاً. ليس راكبو الأمواج من تلك الفصائل الثلاث المعذبة، مهاجرين، أو هاربين من الحرب ومن الجوع والمرض فقط. هم إنتحاريون، يتخذون قراراً واعياً بالموت، كمجموعات وعائلات. يستقلون مراكب صغيرة يعرفون سلفاً أنها لا تصمد حتى لبضعة أميال بحرية، ولا تدرك وجهتها النهائية..وكانت الفاجعة الاخيرة قبل أيام، نموذجاً مؤلماً على سخرية الاقدار وقسوتها: نازحون سوريون يفرون من بلادهم الى الملجأ اللبناني العابر، لكي يركبوا البحر على غير هدى، من غير بوصلة حتى، فينتهي بهم الأمر جثثاً متناثرة على شواطىء مدينتهم طرطوس السورية.

وكما في عالم الحيتان، يخرج المنتحرون اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون من بيئاتهم تسللاً، ومن دون ضجيج، أو حتى أثر. بعضهم، كما يبدو ليس لهم أهل ولا أقارب مباشرون يطالبون بهم، أو يتواصلون معهم. كأنهم بلا جذور، او حتى أسماء. مجرد جثث يلفظها البحر ولا يُعنى أحد حتى بدفنها. تُترك مقتنايتهم وملابسهم على السواحل..وتتحول بقاياهم الملونة الى صور وأشرطة فيديو، يلتقطها المارة، ويوزعونها كأدلة على قصة موت عابرة، على كارثة تسببت بها الطبيعة، نتيجة طقس عاصف أو بحر غاضب أو مكتظ بالجثامين..

لكنها، بالتوصيف الدقيق، الذي لم يعد يجوز سواه، واحدة من أكبر عمليات الانتحار الجماعي التي شهدها لبنان على مر الزمن. العلم والبحث، يتيحان فرصة لم تختبر حتى الآن، هي أهم وأدق مما هو متاح للابحاث المتواصلة حول انتحار الحيتان، للتوصل الى استنتاجات محددة، لتفسير تلك الظاهرة البشرية المرعبة، وتحليلها، والعمل على تفادي تكرارها، بأي شكل من الاشكال. الخوف والجوع والمناخ، أسباب علمية ثابتة ومشتركة بين الحيتان والانسان. لكن، ثمة جهد يمكن، بل يجب ان يبذل، لكي يمحى هذا المشهد الموجع..ويعود لبنان، ومعه سوريا وفلسطين، الى سابق عهدهم في إنتاج وتصدير المهاجرين "الطبيعيين"، لا الانتحاريين البائسين، الذين تغص بجثامينهم مياه شرقي البحر المتوسط هذه الايام، وتتنافس مع جثامين الفارين من البلدان الافريقية باتجاه السواحل الاوروبية.

والحديث لا يكون مع "الدولة" ولا عنها. فهي مجرد خرافة. كانت وستبقى. والسؤال عن سبب غيابها الآن، أمام هذه الفاجعة الوطنية الكبرى، هو نوع من التخريف، ومن التخفف من مسؤولية المجتمع اللبناني، الذي لم يدرك معنى خروج هذه الموجات المتتالية من الانتحاريين من صفوفه، وما زال يعتبرها هجرة غير شرعية!            

       

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها