الأحد 2022/08/07

آخر تحديث: 08:53 (بيروت)

البابا في كندا اعتذار رمزي عن إبادة فعلية

الأحد 2022/08/07
البابا في كندا اعتذار رمزي عن إبادة فعلية
increase حجم الخط decrease

يمتاز البابا فرنسيس عن غيره من قادة العالم بالإجماع شبه الكامل على حُسن نواياه وحرصه على التسامح والإنفتاح منذ توليه مقاليد الكنيسة الكاثوليكية المثقلة بتاريخ ملبّد بالقضايا الشائكة والملفات المضنية، شأنها شأن أية مؤسسة دينية كان لها سلطة سيادية تتجاوز اتباعها وتقرر مصائر أقوام وشعوب وبلدان لا تزال تعاني من تبعات وعواقب قرارات وسياسات خلّفت ما يتراوح بين الإبادة والإنتهاك، وما بينهما من حروب وفتك ونهب واستعباد وتآمر وتجبر. 

لكن لا يمكن لشخص واحد، مهما كان منصبه ونفوذه ومهما حسنت نواياه، أن يصحح مسارًا يمتد لنحو ألفيتين من الزمن هما عمر الكنيسة التي وإن فقدت سلطاتها السيادية لاتزال تؤثر على مئات الملايين من الاتباع وتدير أكبر بيروقراطية وتعتبر أكبر وأغنى مالك عقاري في العالم، وهذا ما اكتشفه الحبر الأعظم خلال زيارته الأخيرة الى كندا والتي أرادها حسب تعبير الفاتيكان أن تكون "حج توبة" للتكفير عن واحدة من الجرائم الكثيرة التي ارتكبتها الكنيسة في حق السكان الأصليين للقارة الأميركية؛ جريمة "المدارس الداخلية" التي أنشئت لتجريد "الهنود الحمر" من هويتهم الثقافية وتنصيرهم وتغريبهم لـ"يندمجوا" في المجتمع الأبيض الأوروبي الأصل.

احتاج تشريع مخطط من هذا النوع الى العقلية الاستعمارية التفوقية التي كانت الركيزة العقائدية المشتركة بين النخب السياسية والدينية البيضاء في العالم الجديد، والتي ارادت التخلص من أي وجود إنساني لأصحاب الأرض "المستباحين" فقررت أواخر القرن التاسع عشر الغاء الهوية الإثنية لأجيال كاملة ممن نجا من المجازر الدموية والأمراض الفتاكة من "الهنود" عبر أخذ الأطفال من ذويهم ونقلهم الى مدارس داخلية بعيدة عن أماكن ولادتهم لتنصيرهم وتربيتهم بمعزل عما يربطهم أو يذكرهم بأصلهم وأهلهم وثقافتهم وديانتهم. فتحت المدرسة الأولى أبوابها رسميًا عام 1879، بموجب "قانون الهنود" الصادر عن البرلمان الكندي عام 1876، والذي استنسخ التجربة الأميركية "الرائدة" في هذا المجال، وشرّع ووسع التجربة التبشيرية الكاثوليكية الفرنسية التي كانت منتشرة في مقاطعة "كيبيك" منذ القرن الثامن عشر، وخلق شراكة بين الحكومة التي تقدم الأبنية وتجلب الأطفال، وبين الكنيسة التي تتولى الإدارة والتعليم.

المدرسة الأولى التي اعتمدت بموجب القانون كانت في مدينة براتنفورد في مقاطعة اونتاريو، وكانت تقوم بالمهمة منذ العام 1831، لتنشأ على طرازها حوالي 150 مدرسة تركز معظمها في المناطق الوسطى والغربية من جنوب كندا، وضمت حتى اقفال آخرها، مدرسة غوردون في بلدة بونيتشي في مقاطعة ساسيكتشوان عام 1996، حوالي 150 الف طفل، لقي الالاف منهم حتفهم جراء الأمراض وسوء التغذية والإهمال والبرد أو الضرب، وتتفاوت تقديرات عدد الضحايا بين 6 ألاف و30 الفًا، فضلًا عن الناجين من ضحايا العنف الجنسي والجسدي. ولا تزال فرق التحقيق حتى اليوم تعثر على مقابر غير مصرح عنها في ابنية المدارس القديمة.

لم تكن زيارة فرنسيس الاعتذارية مبادرة تلقائية من الكرسي البابوي، كما قد يتصور البعض، بل جاءت كتلبية متأخرة لمطالبة ومناشدة قادة القبائل الهندية التي جاهدت لسنوات طويلة لإماطة اللثام عن الإضطهاد المؤسسي الفادح والمتواصل على ارضهم واهلهم، ودعوات الحكومة الكندية التي اكتشفت عن كثب حجم المأساة الفادحة من خلال عمل "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي تشكلت عام 2008 وأصدرت أربعة تقارير مفصلة رسمت الصورة المرعبة لمشروع الإبادة الأبيض. وقال التقرير الختامي للجنة الصادر عام 2015، أنه إضافة الى الذين قضوا نخبهم نتيجة المرض والإهمال والعنف، لا يزال هناك حوالي 32 الفًا من الناجين الذين تعرضوا للإعتداء الجنسي والعنف الجسدي والمعنوي في تلك المدارس. لذلك لم يكن مفاجئًا اعتبار الطرفين زيارة البابا غير كافية لأن الاعتذار وحده لن يزيل الاثار المدمرة للبرنامج.

ولم تسعف البابا أيضًا حقيقة أن الكنيسة الكاثوليكية كانت الأساس في الخطيئة الأصلية تجاه السكان الأصليين حين أصدر أحد أكثر البابوات فسادًا وفسقًا الكسندر السادس (بورجا) عام 1493، ميثاق "انتركايتيرا" الذي منح بموجبه تاجي البرتغال واسبانيا الكاثوليكيين حقًا الهيًا حصريًا في استعمار العالم الجديد الذي "اكتشفه" كريستوف كولومبس للتو، من أجل التبشير الديني وتنصير الشعوب "المتوحشة"، وحقيقة أن الكشف عن جرائم الغزاة الأوروبيين "المباركين كنسيًا" بدأ في وقت مبكر على يد أصحاب الضمير الحي والحس الإنساني من رجال الكهنوت نفسه، وابرزهم الأب برتولومي دي لا كاساس الذي وثق وفضح الجرائم المرتكبة بحق السكان الأصليين والعبيد في منطقتي الكاريبي وأميركا الجنوبية اعتبارًا من عام 1516، فتم استدعاؤه الى أوروبا حيث واجه تهم الخيانة والهرطقة، دون أن تغيّر كتبه وكتاباته شيئًا من فظائع المستعمرين. تضاف الى ذلك حقيقة أن جهات نافذة في الكنيسة لا تزال مصرة على انكار التاريخ الشنيع وترى حتى في الاعتذار الرمزي تنازلًا لا ضرورة له.

كعادته نجح البابا فرنسيس في إضفاء جو من التسامح والمودة خلال زيارته وجولاته التي شملت مناطق الحكم المحلي للسكان الأصليين وأشاع نوعًا من التفاؤل المطلوب بإمكان التفاهم بين البشر مهما كان التاريخ بشعًا، الا أن العواطف سرعان ما انحسرت، حتى قبل أن ينهي زيارته لتفسح المجال أمام المقاربة الواقعية التي تريد ترجمة الاعتذار الى خطوات عملية فعالة لا "تكفّر" عن الجرائم رمزيًا فقط بل تساهم في تحسين ظروف حياة الناجين من مشروع الإبادة واولادهم واحفادهم وفي إعادة تأهيل البيئة القادرة على استعادة هويتهم الثقافية والإنسانية وتلبية احتياجاتهم المستحقة على غرار ما فعلته الحكومة الكندية التي دفعت تعويضات مالية للناجين وخصصت موازنة جارية للخدمات التربوية والإجتماعية والنشاطات الثقافية للمجتمعات التي تأثرت سلبيًا.

حتى الآن يبدو أن مهمة البابا ستكون صعبة للغاية وهذا ما يُستشف من مآل قضية رديفة في السياق نفسه، حيث يطالب مجلس حكومات السكان الأصليين الفاتيكان بإعادة الاثار والملابس والأدوات ذات القيمة التاريخية التي تعود لقبائلهم والموجودة في متحف الفاتيكان الذي يعرض القليل منها ويخزن معظمها في روما. يقول الفاتيكان أنه ليس في وارد إعادة تلك الاثار لأنها هدايا قُدمت الى الكرسي الرسولي الذي يحتفظ بها  بصورة نظامية، ويرد الناشطون وممثلو المجلس بأن هذه "الهدايا" سُرقت ونهبت منهم بعد مجازر وإرتكابات موصوفة وبالتالي هي في أساسها غير شرعية وهي "غنائم" لا تنطبق عليها مواصفات الهدايا.

اذا كانت مسألة من هذا النوع وبهذا الوضوح مبدئيًا غير قابلة للحل ولا تزال موضع أخذ ورد وسجال ألسني وحقوقي، فكيف لزيارة عابرة أو اعتذار رمزي أن يصححا تاريخًا من الإبادة؟                      



       






increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها