الأربعاء 2022/07/06

آخر تحديث: 15:26 (بيروت)

باولو دالوليو المُبشَّر بالفشل(5): في نقطة تَصالُب عالمَين!

الأربعاء 2022/07/06
باولو دالوليو المُبشَّر بالفشل(5): في نقطة تَصالُب عالمَين!
من تجمع لناشطين سوريين معارضين في روما، العام 2019، للمطالبة بتحرير الأب باولو من خاطفيه (غيتي)
increase حجم الخط decrease
باولو دالوليو ليس مجرد رجل دين، إنه فيلسوف، ليس بموجب شهادة الفلسفة التي يحملها، بل بحكم معالجته لقضايا "كليّة" تصدى لها، خصوصاً في كتابه الأشهر "عاشق الإسلام مؤمن بعيسى[1]".

قضايا الأب باولو، التي يجادل دفاعاً عنها، تتمحور حول إشكالية الاعتراف بالآخر، التي يؤسس لها كهنوتياً بوصفها "موقفاً من مواقف القلب، يبنى على الإيمان بكونه الانفتاح الطوعي الحر على نعمة اللقاء بالله، الآخر الكلي"[2]. لكنه سرعان ما ينقلها إلى المستوى الفلسفي المتاخم للعِلم، ويطبّق إيمانيته الكلية على نموذج جزئي محدد، هو العلاقة بين الشرق والغرب، أو العالم الإسلامي من جهة، والعالم المسيحي/ اليهودي من جهة أخرى، لا بل في نقطة تقاطعهما، في سوريا الكبرى، التي كانت عبر الأزمنة بؤرة التبادل والصراع الحضاريين لشعوب حوض المتوسط، فهو "رجل إيمان، جعل غاية حياته التقارب بين عالمَين، وهو يطبّق مثاله في نقطة تصالب هذين العالمَين"، كما يخبرنا ريجيس دوبريه.

يلجأ باولو، في محاولته التقريب بين هذه العوالم، إلى الرموز، يبدأ منها وينتهي إليها، ويتخذها قاعدة ومادة لحوار مشترك، وهو الذي أدرك بعمق ومن قرب، أهمية وخطورة الرمزيات في الثقافة المشرقية، مسلِمة كانت أم مسيحية ويهودية، "فالسماء هنا تعج بالأنبياء والرسل والأولياء والقديسين".

في حدود معرفتي، عني باولو بأربع أطروحات، وسعى لتطوير وعيه بها، وعَكَس ذلك في مشروعه الحواري الكبير. أولاها، البحث في الجذور المشتركة للعقائد الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، والمآل الواحد الذي تتوق للانتهاء إليها، وهو يوم الدينونة، فيجد أنها متشابهة عند أبناء إبراهيم كلهم، ويجد أن الاختلافات الحاصلة ما بين الأديان الثلاثة، هي "البرامج السياسية التي تصنع رؤى مختلفة حول مستقبل العالم".

ولأن هذه النظرية ينقضها في الواقع رفض الإسلام من طرف الدينين الآخرين في العائلة الإبراهيمية، وعدم الاعتراف به ديناً سماوياً، فقد جعل باولو واحداً من مشاغله، في أطروحته الثانية، توكيد الأصل الإبراهيمي للإسلام، مسيحياً ويهودياً، واعتمد على عدد من سابقيه البارزين في هذا الميدان، متلمساً مكانة إبراهيم الخليل لدى المسلمين، وعلاقته مع الله، التي يمكن "أن تقدم مدخلاً لفهم ما يمثله سر الإسلام بالنسبة للمسيحيين"، مستنداً إلى أطروحة الكاردينال كارلو ماريا مارتيني، المتخصص المهم في التوراة، حول "البركة" التي وعد الله بها أبناء إسماعيل، فـ"القصة التي استمعنا إليها، والمأخوذة من أقدم سِفر، سِفر التكوين (الإصحاح 21)، تُحدثنا عن ابن إبراهيم الذي لم يكن من سلف الشعب العبري مثلما سيكون اسحق، لكن الله منحه بركته أيضاً، [ابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك] (الآية 13)، وقِيل في نهاية القصة: [وكان الله مع الغلام] (الآية20). لقد بقيت صروف الدهر الحقيقية لإسماعيل وأبنائه غامضة في التاريخ الممتد بين الألف الثاني والأول قبل يسوع المسيح، لكن من الواضح أن المرجع التوراتي يتكلم عن بعض القبائل البدوية المقيمة حول شبه الجزيرة العربية. وبعد قرون، ولد لواحدة من هذه القبائل محمد، نبي الإسلام؛ واليوم، حيث يتقلّدَ العالم العربي أهمية قصوى في المسرح الدولي، لن يكون بوسعنا أن ننسى هذه البركة القديمة التي تظهر عناية الله الأبوية إزاء أبنائه كلهم".

ويستشهد باولو أيضاً بالكاردينال كاسبر الذي يقول: "علاوة على ذلك، الله لم يتخلَ عن هاجر وإسماعيل على الإطلاق، فقد جعل منهم أمّة عظيمة كما جاء في سفر التكوين، الإصحاح 21، الآية13".  ويخلص باولو إلى القول إنه جمع هذه اللائحة من الاستشهادات بغية الدفاع عن شرعية وأهمية الأصل الإسماعيلي، وبالتالي الأصل الإبراهيمي لإيمان محمد والمسلمين.

للانتقال إلى الأطروحة أو الإشكالية الثالثة، يتوقف باولو للتساؤل: لماذا كانت علاقة اليهود تاريخياً بالمسلمين أقل تشنجاً من العلاقة بين المسلمين والمسيحيين؟ ويجيب بأن ذلك ناجم عن تعامل اليهود مع المسلمين بوصفهم ذرية ابن عمهم إسماعيل، الذي جاء كي يتصدَّى للإمبراطورية المسيحية البيزنطية، ويعيد فتح طريق القدس أمام أُخوة إسحاق ويعقوب، بينما نظر المسيحيون إلى الإسلام منذ بداياته إليه على أنه "تحدٍّ مرهق". ويميز باولو بعد ذلك جزئية تبدو تفصيلاً، لكنها غاية في الأهمية بالنسبة لرسالته ودعوته. فمسلمو المشرق يشيرون إلى المسيحيين هناك بوصف "مسيحيينا"، أو المسيحيين خاصتنا، ويميزون بينهم وبين المسيحية الغربية، الشمولية والرافضة للآخر، التي تسببت في أزمات عويصة للعالم الإسلامي.

وهو في هذا المقام يشيد بـ"الفضل الكبير" للإسلام، الذي منع تقدم المشروع المسيحي الامبريالي، بعدما تبلور حول سلطة تبرر استخدام العنف من خلال عقائد "صحيحة"، كما أنشأ الإسلام سوراً في وجه الشمولية المتطرفة في أوروبا المسيحية، في حين مارس العالم الإسلامي تسامحاً جوهرياً إزاء يهود ومسيحيي الشرق، حيث أُبرمت "عقود" التسامح مع أهل الكتاب من يهود ومسيحيين منذ تأسيس أول مجتمع إسلامي. ويرى باولو أن التسامح الإسلامي مبنيٌّ على اعتراف صادق بأن "الطائفتين اليهودية والمسيحية أسسهما الله، وحده سيد التاريخ وخاتمته".

ويهاجم باولو النزعة السلطوية التي قادت رعايا الكنيسة إلى التناقض، بين أن يكون المرء تلميذاً لعيسى الناصري، وتابعاً ينتمي إلى كنيسة السلطة في الوقت نفسه، ويجد أن ذلك ما قاد روح مرشده شارل فوكو إلى تنقية إيمانه الكاثوليكي، وانتمائه إلى الحضارة الغربية وقوميته الفرنسية، وحتى ارستقراطيته، في أقصى صحراء المسلمين، ليضع بعض الآمال على هذا التناقض، ونزعة التطهير التي يمكن أن تنشأ عنه، وهي أطروحته الرابعة التي يلخصها بالقول: "ثمَّة عملية صدّ متبادلة، تخلق أزمة تطهير، لكل منّا".
____________________________

[1] "عاشق الاسلام مؤمن بعيسى"، باولو دالو ليو ، دار الفارابي ت: رجاء الشلبي، الطبعة الأولى 201٣، أو النسخة الأصلية للكتاب باللغة الفرنسية،  دار لاتيليه، باريس، 2009.
[2] إشكالية الاعتراف بالآخر: أعمال الندوة التي أقيمت في دير مار موسى الحبشي، تموز 2004، تحرير: أديب الخوري، دار الخليل، دمشق، 2007، ص16.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها