الأحد 2022/07/31

آخر تحديث: 21:42 (بيروت)

عنصرية أميركا التاريخية:الشرطة نموذجاً

الأحد 2022/07/31
increase حجم الخط decrease

الساعة الأولى من فجر الرابع من تموز/يوليو، يوم عيد الإستقلال في أميركا، تحاول دورية للشرطة في مدينة آكرون شمال شرقي ولاية أوهايو توقيف سيارة يقودها رجل أسود. التهمة: أسود يقود سيارة. يحاول السائق جاينلاند والكر (25 عامًا) التملص من الدورية دون جدوى. تنضم سيارات شرطة إضافية الى المطاردة الخاطفة، يترجل والكر من سيارته ويحاول مواصلة الهرب على قدميه يلاحقه 12 شرطيًا ويطلقون النار عليه ليسقط مضرجًا بدمائه. قال التقرير الأولي عن الحادث أن والكر لم يكن يحمل سلاحًا، لكن عثر على مسدس في سيارته لاحقًا، وقال تقرير الطبيب الشرعي أنه أصيب بستين طلقة. هذه الكمية من الرصاص لا تظهر افتقار رجال الشرطة الثمانية الى الإنسانية وحسب، وانما تظهر انعدام الحرفية والمهنية من قبل عناصر يفترض أنها مدربة على التصرف بروية في الظروف الضاغطة.

الثانية والنصف بعد ظهر الرابع عشر من أيار/مايو الماضي، يترجل شاب ابيض يرتدي درعًا واقيًا من الرصاص ويعتمر خوذة عسكرية تعلوها كاميرا تبث مباشرة على موقع تواصل اجتماعي، ويحمل رشاشًا حربيًا ومسدسًا أمام سوبرماركت في حي ذي كثافة سكانية من السود في مدينة بافالو عاصمة ولاية نيويورك. يبدأ بايتون إس. غيندرين (18 عامًا) اطلاق النار على الموجودين في موقف السيارات فيقتل إثنين ويجرح اثنين ويدخل الى المحل ويقتل ثمانية آخرين بينهم شرطي اسود متقاعد يعمل حارسًا، ويجرح 3 اشخاص. جميع الضحايا كانوا من الافارقة الأميركيين باستثناء جريح أبيض اعتذر منه القاتل وهو يستسلم الى الشرطة التي حاصرت المكان وأفسحت المجال أمام غيندرين ليخرج حتى يتم القبض عليه بهدوء ويسلم سلاحه وينقل الى النظارة. قالت التقارير الأولية أن القاتل اعلن عن نيته تنفيذ جريمته على الإنترنت ونشر بيانًا محشوًا بلغة العنصريين يحرض على السود والملونين والمهاجرين.

بين هذين المشهدين المختلفين الى درجة مدهشة يتمدد تاريخ أميركي عويص من العنصرية المؤسسية الفاقعة التي تجعل من كل أسود وملوّن وصاحب أرض أصلي (ما يسميه البيض هنديًا أحمر) متهمًا خطيرًا بصرف النظر عن التفاصيل، وتعامل الأبيض على الدوام كمواطن له حقوق دستورية وحماية قانونية كذلك بغض النظر عن التفاصيل. هذا الإنفصام الهائل ليس وليد اللحظة السياسية الراهنة التي قد يراها البعض نتيجة لحملات التحريض اليمينية البيضاء التي توجتها رئاسة دونالد ترامب الصاخبة، بل يمتد عميقًا في التاريخ الأميركي الى ما قبل الإستقلال، الى حقبة الاستعمار والإستيطان التي جلبت من بريطانيا الأم ومن المستعمرات الأكثر قدمًا في أميركا الوسطى والبحر الكاريبي مفهومًا محددًا للشرطة كجهاز أمني أهلي تطوعي سرعان ما طغى على التشكيل الأصلي الذي يقوم على جهازي المارشال على المستوى الفدرالي، الذي ورث الجهاز الملكي،  والشريف على المستوى المحلي، وساهمت عوامل كثيرة صياغة النسخة الراهنة من الشرطة كمؤسسة وعقيدة.

يمكن القول، بإيجاز تمليه مواصفات المقال، أن الشرطة كمفهوم قامت في أميركا على ثلاث مهمات أصلية ذات طبيعة شعبية وأمنية في الوقت نفسه، المهمة الأولى التصدي للسكان الأصليين وحماية المستوطنات الدائمة التمدد من هجماتهم، والثانية التصدي للوجود الإستيطاني الفرنسي المنافس الذي انتهى مع صفقة لويزيانا التي اشترت فيها أميركا من نابليون بونابرت مليونين ومئة وأربعين الف كيلومتر هي منطقة النفوذ الفرنسي في أميركا الشمالية بمبلغ خمسة عشر مليون دولار، (لاحقًا تحول هذا الدور الى الإسبان ثم المكسيك)، والثالثة مطاردة العبيد الهاربين واعادتهم الى اسيادهم بعد جلدهم في ساحة عامة 20 جلدة. وجاء في التبرير القانوني للحاجة الى الشرطة، خصوصًا ما يتعلق بالعبيد والسكان الأصليين، أنهم غير متساوين مع البيض ولا يمكن أن يستفيدوا من حماية القانون (في ذلك الحين كان الدستور الأميركي ينص على أن الأسود المملوك عبارة عن ثلاثة أخماس إنسان، وكان المالك يحتسب عدد عبيده ويصوّت نيابة عنهم. البند الثالث من القسم الثاني في المادة الأولى. تم الغاء النص عام في التعديل الثالث عشر للدستور1865، واستبداله في التعديل الرابع عشر 1868. كان على السكان الأصليين الإنتظار حتى العام 1924 ليحصلوا على حق التصويت جزئيًا).

تضاف الى التاريخ العنصري الإستقوائي لمفهوم الشرطة، المفترض أن تحمي الحالة الإغتصابية الانكلوسكسونية البيضاء من أصحاب الأرض (السكان الأصليين)، وأصحاب الأسبقية (ذوي الأصول اللاتينية) وأصحاب الفضل (الأفارقة)، وأصحاب الحيوية (المهاجرين)، تبعات التكوين الكياني الأميركي الفدرالي على المستوى الوطني واللامركزي على المستوى المحلي والتي تحوّل كل تجمع سكاني مهما قل عدده الى وحدة سياسية مستقلة لديها كل مقومات الحكومة المحلية بسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبمؤسساتها الأمنية والخدماتية من الشرطة الى التربية والصحة والضريبة وكل ذلك يقوم على الإقتراع، ما يعني أن الأكثرية البسيطة هي التي تحكم، وهي أكثرية ذات لون واحد تاريخيًا وتعرف كيف تبقي على نفوذها من خلال أنظمة وقوانين محلية تصنعها بنفسها لتمنع السود والملونين والمهاجرين من الإقامة أو العمل في مدنها، أو على الأقل عرقلة مشاركتهم في الحياة السياسية وحرمانهم من التصويت قدر الإمكان. 

في أميركا الآن حوالي 700 الف شرطي يتوزعون على أكثر من تسعة عشر ألف بلدة ومدينة، ويتراوح عدد العناصر من فرد واحد في القرى الصغيرة الى خمسين الفًا في نيويورك التي كانت أول مدينة تنشئ قسمًا للشرطة رسميًا عام 1844 ليحل مكان "لجان المراقبة" التطوعية، وسرعان ما انتشرت التجربة لتتحول الى ظاهرة شاملة خصوصًا بعد الحرب الأهلية (1860-1864)، الا أن عقيدتها لم تتغير كثيرًا بل زادت تطرفًا بعد تحرير العبيد الذين وجدوا انفسهم على الفور عرضة لقوانين وأنظمة جائرة تحولت تدريجيًا الى نظام الفصل العنصري الذي بقي قائمًا حتى النصف الثاني من القرن الماضي. الّا أن إقرار الحقوق المدنية عام 1964، فاقم من النزعات العنصرية البيضاء التي ترجمت نفسها في قانون "دعم تطبيق القانون" الذي وقعه الرئيس ليندون جونسون عام 1965، وادى الى عسكرة الشرطة الى أقصى الحدود لتتضخم عددًا وتصبح مدججة بالسلاح وتتبنى سلوكًا حربيًا زاد منه الإعتماد على القوات المسلحة لمدّها بخريجي الحروب الدائمة كعديد وبفائض السلاح والآليات كعتاد. وصار من الطبيعي لهكذا مؤسسة عسكرية ذات تاريخ عنصري وعقيدة إقصائية أن تعتمد العنف والتعسف نهجًا.

    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها