الأربعاء 2022/06/29

آخر تحديث: 07:29 (بيروت)

تونس: التقليد الثوري وكنزه المفقود

الأربعاء 2022/06/29
تونس: التقليد الثوري وكنزه المفقود
تظاهرات "اتحاد الشغل" بدت محدودة الأثر في المشهد الأكبر (الأناضول)
increase حجم الخط decrease

يكاد الدستور التونسي الجديد يصبح أمراً واقعاً، فمقاومة الخطوات المزلزلة التي اتخذها قيس سعيد، الواحدة بعد الأخرى، ما زالت في حدها الأدنى، وذلك بعد شهور على تعليق البرلمان وقبل أسابيع معدودة على استفتاء من المتوقع أن يغير شكل البنية السياسية ونظام الحكم كلياً. وباستثناء تظاهرات تُعدّ المشاركة فيها بالمئات، فالخطوة الوحيدة التي بدت تحدياً حقيقياً لإجراءات سعيد، كانت الإضراب العام الذي دعا إليه "اتحاد الشغل" هذا الشهر، وهي الدعوة التي نالت استجابة واسعة، لكنها في المحصلة العامة كانت محدودة الأثر في المشهد الأكبر في البلاد.

ما يستوجب التركيز هنا ليس المقاومة الضعيفة، بل بالأحرى الدعم الذي تناله إجراءات سعيد وشخصه. ومع الاعتراف بتراجع الحماس في التعبير عنه مع الوقت، لكن ما لا ينبغي إنكاره هو استمرار هذا الدعم، ولو ضمناً، سواء من عموم المواطنين أو على مستوى النخب المنتسبة للثورة وللدوائر الراديكالية، وبالأخص جهة اليسار السياسي.

ولا يكفي التسليم بالإجابات المعدة سلفاً وصياغتها المختزلة، على وزن الاتهام بالشعبوية. فإن كان علينا التسليم بأن خطاب سعيد وخطواته يناسبها هذا الوصف، في أوجه عديدة، فإن "الشعبوية" تظل اصطلاحاً وصفياً، يعجز عن تقديم شرح أو تحليل للأسباب. فالاستفهامات الأجدر لا ينبغي أن تنصب على السؤال التقليدي: أهذا انقلاب أم لا؟ بل كيف كان لمثل تلك القرارات التي حلت عملياً البنية الدستورية للدولة، أن تمر بمثل تلك البساطة، بل وبالكثير من الرضا والابتهاج الجماهيري؟ وتكمن أهمية ذلك السؤال المبدئي، في أن تونس كانت منبع الشرارة التي أشعلت الانتفاضات العربية اللاحقة، والمستمرة في موجات تالية إلى اليوم، وفي أن التجربة الديموقراطية التونسية، مقارنة ببقية الأقطار العربية الثائرة، نالت مساحة من الزمن كافية لوضع دستورها واختبار العمليات والمؤسسات الديموقراطية لعقد كامل من الزمن. فكيف يتم التفريط في هذا كله من دون أدنى مقاومة؟

يستلهم عنوان المقال هذا، عنونة الفصل الأخير من كتاب حنة آرندت، "في الثورة". ويبدو الكتاب، وفصله الأخير تحديداً، مدخلاً مناسباً للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بتونس. فكتاب آرندت يتناول الثورات، كما يوحي عنوانه، لكن تحديداً على خلفية فشلها، بدءاً من الثورة الفرنسية وصولاً إلى الثورة الروسية. فكيف للثورات التي ناضلت من أجل الحرية أن تنقلب على عقبها بالاندفاع نفسه لمحو ضماناتها؟ وعلى الرغم من أن الثورات التي يتناولها الكتاب تبدو بعيدة تاريخياً عن ثوراتنا العربية الأقرب، وبعيدة منها في السياق والملابسات، إلا أن المقارنة تظل جائزة، ببساطة لأن مفاهيمنا الحالية عن الثورة ودوافعنا نحوها وغاياتها، تظل حتى مؤسسة على نموذج تلك الثورات الأولى، سواء في نسختها البورجوازية أو الاشتراكية.

في المقدمة، تذهب آرندت إلى مقولة مربكة. فالثورة بعد أن تضع دستوراً، تكون هزيمتها قد حُسمت، فبحسبها كل دستور هو من فعل "الثورة المضادة". ولا يقدم الكتاب شرحاً لذلك الحكم الحاد، سوى في فصله الأخير. فما تشير إليه آرندت هو "معضلة التمثيل". في وضع دستور، وبما أن المجال لن يتسع لكل الشعب للمشاركة في عمليات اتخاذ القرار، فإن السلطة تنتقل من الشعب إلى جمهرة الناخبين ومنهم إلى النواب. وبدلاً من الفعل المباشر للشعب في طور الثورة، يأتي التمثيل بصفته حكم ممثلي الشعب على الشعب. فشعارات "الشعب يريد" أو "السلطة كلها للشعب" لا تصدق بعد الثورة سوى في يوم الانتخابات، وبذلك يتنازل الشعب لنوابه طوعاً عن السلطة بقية الوقت. فالحكومة بذلك قد آلت إلى إدارة عامة، والميدان العام الذي أسسته الثورة يكون قد زال، كمكان مادي ومعنوي أيضاً. هكذا، فالتمييز القديم بين الحاكم والمحكوم، الذي تم محوه بفعل الثورة، عاد مرة أخرى بسلطة الدستور. فعمل الحكومة يغدو، مرة أخرى، إمتيازاً للقلة. أما السلطة الوحيدة التي يحتفظ بها الشعب فهي "السلطة الاحتياطية للثورة".

في العموم، هناك صراع ضمني بين النواب والشعب، واحتياطات الفصل بين السلطات وتوازنها لا تمنح مجالاً للشعب، بل تسعى إلى منع تغول واحدة من السلطات، وتحول النظام السياسي إلى "طغيان انتخابي". وعلى إثر ذلك، قد يقود التوازن بين السلطات إلى إضعاف السلطة، وفي حالات إلى شلّها، كما حدث في التجربة التونسية عند أكثر من منعطف على سبيل المثال.

لا ترفض آرندت النظام التمثيلي إجمالاً، لكنها تراه مرشحاً للانهيار، حين لا توجد مساحة للاتفاق بين الطوائف السياسية، أو مع عدم توافر موارد كافية لتوزيع المصالح بينها من دون أن تكون على حساب حرمان الآخرين منها. وفي هذه الحالات، تصبح هيمنة طرف منها على الأطراف الأخرى جميعاً، مسألة مصيرية، وفي أحيان تصبح الطريقة الوحيدة لفرض هذه الهيمنة هي تنظيم الجماهير خارج قواعد الدستور أو مجال السياسة المتفق عليه. ويصبح انهيار النظام التمثيلي مرجحاً أكثر، إن فشل في تحقيق وعود الثورة ومطالبها الأولى المتعلقة بالرفاه والحياة الكريمة.

الفريد في طرح آرندت، وهو ما يرتبط بالسياق التونسي، هو تجرؤها على القول إن ارتكاس الثورات على نفسها، أو انقلاب الجماهير على الهيئات الدستورية التي تلي الثورة، ليس حياداً عن الطريق أو إحدى تبعات معضلات التطبيق، بل هو ترجيح متجذر في ثنائيات الثورة/الدستور، والشعب/السلطة التمثيلية.

هذه الإشارات المقتضبة غير كافية بالطبع للإجابة عن أسئلة المسار التونسي، لكنها تبقى محاولة لتوسيع محاور تناولها، عبر النظر في العلاقة داخل تلك الثنائيات، وهي الثنائيات المفترض تناغمها بشكل طبيعي مع أنها لا تحوي إلا تعارضاً وتناقضات تحتاج الكثير من الجهد لتوفيقها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها