الأحد 2022/06/26

آخر تحديث: 06:20 (بيروت)

خيار أوروبا النووي المزدوج ...والمتأخر

الأحد 2022/06/26
خيار أوروبا النووي المزدوج ...والمتأخر
increase حجم الخط decrease

أدخل العدوان الروسي غير المبرر على أوكرانيا دول الاتحاد الأوروبي في مأزق موصوف، وأجبر القارة الشحيحة الموارد الطبيعية على إعادة فتح ملف كانت تظن أنه، وبعد عقود من التجميد، سيدخل مسار التصفية التدريجية، وهو الملف النووي واستخدام التقنيات الذرية لإنتاج الطاقة التي تعتبر الشريان الأساس للإقتصاد والخدمات والأمن الاجتماعي. هذا الملف الذي تحول عشية انتهاء الحرب الباردة الى نقطة استقطاب سياسية وانتخابية كبيرة للأحزاب الخضراء التي وضعت التخلص منه هدفًا محددًا ونجحت في فرض نفسها كلاعب أساس وخصوصًا في الجزء الغربي من القارة.

بين التعثر الميداني للغزو والذي حوّل "العملية العسكرية الخاصة" لفلاديمير بوتين الى حرب خنادق واستنزاف، وبين الموقف الأوروبي والغربي شبه الموحد لفرض عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على موسكو، انخفضت واردات النفط والغاز الروسية الى أوروبا بوتيرة متسارعة ترجمت نفسها على الفور أولًا، بارتفاع مضطرد في أسعار البنزين والوقود، زاد من ارتفاع مؤشر التضخم، وثانيًا في انطلاق النقاش العام حول البدائل الممكنة، ليس لسد النقص في الواردات آنيا فقط، وانما لكيفية الإستغناء التدريجي عن الصادرات الروسية، حتى لا يبقى هذا القطاع شديد الحساسية والحيوية تحت رحمة موسكو ورهينة اطماعها الإقليمية، ليعود الموضوع النووي الى التداول من منطلقات براغماتية.

تشكل الطاقة النووية مصدرًا لربع استهلاك دول الاتحاد الأوروبي من الكهرباء التي يستهلك منها سكان الدول السبع والعشرين البالغ عددهم اربعمئة وخمسين مليون نسمة 2664 تيراوات في الساعة للإستخدامات المنزلية والتجارية والصناعية، فيما يشكل النفط والغاز والفحم الحجري 46 بالمئة ويتوزع الباقي، 29 بالمئة، على الطاقة الشمسية وطواحين الهواء والسدود المائية، وإذا اضيف استهلاك الوقود للنقل والصناعة والتدفئة يتضح مدى الإتكال الأوروبي على الخارج، حيث يتم استيراد 2.2 مليون برميل نفط خام و1.2 مليون برميل من المشتقات النفطية يوميًا، يأتي حوالي ثلثها عبر شبكة الانابيب الآتية من روسيا، كما يتم استيراد 1.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.

من أبرز المفارقات التي تطبع مقاربة الطاقة النووية أنها، وفي زمن يتصاعد فيه السعي للحد من التلوث البيئي والإحتباس الحراري، تعتبر من "أنظف" مصادر الطاقة بيئيًا، وفي الوقت نفسه من أخطر التقنيات الحديثة على حياة البشر كما اتضح بعد حوادث التسرب من المفاعلات الأميركية على جزيرة "ثريمايلز" في ولاية بنسلفانيا عام 1979، وكارثة مفاعل تشيرنوبيل في أوكرانيا عام 1986، والحوادث المتوالية في المفاعلات اليابانية من مفاعل "توكاي" عامي 1997 و1999، الى مفاعل "فوكوشيما" عام 2011. تشكل هذه الحوادث المميتة والتي تؤدي الى تلوث يصعب التخلص منه لعشرات السنين المادة الدسمة لمناهضي الطاقة النووية واستخداماتها السلمية أو الحربية، والذين كانت لهم حملة عالمية مشهودة في وجه الحكومة الفرنسية عندما أمر جاك شيراك بإجراء تجارب نووية على أراضي الجزيرة التابعة لفرنسا في المحيط الهادئ عام 1993.

وبين القوة الخضراء المناوئة للطاقة النووية وقوة أنصار البيئة المتعاظمة والداعية الى بدائل تعتمد الطاقة المتجددة كان من الطبيعي أن تبتعد أوروبا تدريجيًا عن المصادر التقليدية للطاقة وتتجه الى التقنيات الجديدة، وخصوصًا الشمس والهواء، باعتبار الكلفة البيئية للسدود عالية، فيما انصب الجهد النووي على تغيير طريقة الإنتاج واستبدال تقنية الإنشطار المعتدة حاليًا بتقنية الإنصهار التي ستشكل إن نجحت فتحًا علميًا عظيمًا يفتح الباب واسعًا أمام الحصول على كميات لا متناهية من الطاقة النظيفة بلا اشعاعات ولا نفايات خطرة وبلا حاجة الى مواد خام باهظة الثمن مثل اليورانيوم والبلوتونيوم والثوريوم، حيث تعمل مفاعلات الإنصهار على أكثر المواد انتشارًا في العالم وهي الهيدروجين.

وفي حين كانت فنلندا إحدى أصغر دول الإتحاد وأقلها موارد تشهد في العقود الثلاثة الماضية تبعات التخلي الأوروبي عن الطاقة النووية التقليدية، حيث عانت الكثير من أجل بناء مفاعل نووي ثالث لتوليد الكهرباء على جزيرة "اوكيليوتو". بدأ العمل في المفاعل الجديد عام 2005ـ على أمل أن يبدأ الإنتاج في العام 2009. الّا أن المشروع الذي كان الأول من نوعه في القارة لقرابة 15 سنة، كشف لحكومة هلسنكي مدى ابتعاد أوروبا فعليًا عن الاستثمار في تقنية غير مستحبة. فالعمل، الذي لم يجد ما يلزم من الخبرات والمكونات الأساسية، لم ينته بعد، وجاء الإعلان الرسمي الشهر الماضي ليؤجل تاريخ البدء بالتشغيل الى الخريف المقبل.

مقابل ذلك تستبشر تقنية الإنصهار بمستقبل أفضل. ففي المجمع العلمي "كوكاراش" القريب من مدينة سان بول ليدورانس على السفوح الغربية لجبال الألب جنوب فرنسا، يوشك العمل على انشاء مفاعل (ITER) أن ينتهي، لتتويج مرحلة مهمة من التعاون الدولي الذي بدأ عام 2006، لإختبار إمكانية انتاج الطاقة عبر تقنية الإنصهار في مشروع تتراوح كلفته بين 45 و60 مليار دولار ويفترض أن يبدأ في انتاج الطاقة بمعدلات عالية عام 2030، بعد نجاح التجارب الأولى السنة الماضية في صهر ذرات الهيدروجين تحت ضغط وحرارة مرتفعين جدًا وإنتاج بلازما كافية للتحول الى كهرباء، في مختبر (JET) الذي مهد الطريق للمفاعل الجديد.

وسواء نجح هذا المشروع الذي تتشارك في تمويله أميركا والصين وروسيا والإتحاد الأوروبي وبريطانيا وعدد من دول العالم، أو استقر الرأي على اعتماد الخيار النووي التقليدي، الذي يحتاج انشاء مفاعل واحد له لأكثر من عشر سنوات في أحسن تقدير، يبدو أن البدائل النووية المزدوجة لأوروبا متأخرة كثيرًا، وأن على بروكسل أن تعمل بسرعة قبل حلول الشتاء لبناء منشآت جديدة ومصاف وخزانات لإستيعاب واردات النفط والغاز من مصادر غير روسية، وهذا هو الخيار المعتمد حتى الآن على ما يبدو.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها