الأربعاء 2022/12/14

آخر تحديث: 07:11 (بيروت)

الأمنَنة... حتى تصفيف الشعر

الأربعاء 2022/12/14
الأمنَنة... حتى تصفيف الشعر
فضاءات حميمية بطبيعتها تقع في مساحة ملتبسة بين العام والخاص (غيتي)
increase حجم الخط decrease
الأصل في التشريع أن يكون الاعتبار الأمني لاحقاً واستثنائياً ومحدوداً، كون المبدأ القانوني يفترض البراءة مسبقاً وبالعموم إلى أن يثبت العكس، وإن ثبتت تظل دائرتها محددة. في العموم، لا يتطلب النشاط العام تصريحاً مسبقاً، وإن كان أحياناً يتطلب الإخطار، وباعتبار الأنشطة الاقتصادية تقع في القلب من دائرة العام، فإنها تحتاج عدداً من الإيجازات بحسب نوعها، تتراوح من الصحة والسلامة إلى البيئي والأثري. السائد أيضاً أنه، وفي مجالات بعينها، تميزها حساسية خاصة، تتطلب الأنشطة الاقتصادية موافقات أمنِية مسبقة، وإن ظل هذا محكوماً بمنطق الاستثناء والندرة.

أما منطق الأمننة، ففي القلب منه افتراض مسبق بسوء النية، تعميم مطلق للاتهام يطاول الجميع، هكذا يصبح الأفراد عرضة للاشتباه من دون حاجة لإثبات، فالتحقق يأتي لاحقاً. وعلى النهج نفسه، يتطلب النشاط العام، ومن ضمنه الاقتصادي، تصريحاً أولياً من الجهات الأمنية. بلا شك، يكون الدافع هو بارانويا السلطة المشككة دائماً في مواطنيها، ورغبة في مركزة المؤسسة الأمنية داخل المجتمع وربط كل أنشطته بذلك المركز. هكذا، لا يشعر الفرد والمؤسسة فقط بالحضور القَبلي والكلّي للعين الأمنية، بل والحاجة الدائمة لها.

وفي ما يتعلق بخضوع الحيز الاقتصادي للآليات الأمنية نفسها، فلا يعود الحق في مزاولة العمل والأنشطة الرأسمالية مشاعاً كما يجب أن يكون، بل امتيازاً يرتبط بالرضا الأمني. ويضيف هذا طبقة أخرى إلى هيمنة السلطة على المجال العام، فالفرز السياسي قد لا تتوقف تبعاته على الحرمان من الحقوق السياسية، بل قد يمتد حتى إلى الحق في الكسب أو ولوج مجالات اقتصادية بكاملها. والأدهى ألا يرتبط توزيع حصص المنافع الاقتصادية فقط بعلاقات الزبائنية السياسية، أي الموالاة والمعارضة، بل بالأحرى بشبكات صغيرة وغير رسمية للمصالح بمحددات أهواء فردية واعتباطية تقررها القيادات الأمنية على المستوى المحلي. وهكذا، قد تنقلب الأمننة بتشريعيتها الزائدة عن الحاجة إلى عكسها، عمداً، أي إلى اللارسمية وانعدام المعيار والشفافية وتكافؤ الفرص المفترض.

في ذلك السياق، أصدرت وزارة التنمية المحلية المصرية، الأسبوع الماضي، قراراً يلزم طالبي التراخيص لـ83 نشاطاً تجارياً، بالحصول على موافقة أمنية مسبقة. بعض تلك الأنشطة كان يخضع لتحكمات أمنية بصور مباشرة وغير مباشرة، مثل المقاهي والملاهي، حيث وظفت الأجهزة الشرطية المواد القانونية والإجرائية الأخرى "غير الأمنية" لإخضاع أصحاب الأعمال وترويعهم. لكن، ومع تقنين الولاية الشرطية وتوسيع مداها لتشمل مساحات أكبر من المجال الاقتصادي، لا تحتاج هيئات تنفيذ القانون اللعب في المساحات الرمادية لنصوصه أو التعسف في تفسيرها، حيث يكتسب منهج الأمننة صفة الطبيعية، ويغدو منطقه هو المبدأ العام.

بالنظر إلى المجالات المتضمنة في القرار، فإن المقاهي وقاعات الحفلات وصالات الرياضة والبلياردو والحمّامات ومكاتب الرحلات، يجمعها عنصر الاجتماع، وهو ما تبدو السلطة عازمة على ترسيخ قبضتها الدائمة عليه، حتى بعيداً عن الفضاء العام. ومعها صالونات التجميل وتصفيف الشعر، فتلك الفضاءات الحميمية بطبيعتها تقع في مساحة ملتبسة بين العام والخاص، فهي مع طبيعتها شبه العمومية قد تتيح قدراً من الخصوصية المحدودة.

ينسحب الأمر نفسه على المسارح وقاعات السينما والسيرك، وإن كان عنصر الاجتماع هنا ليس وحده الجدير بالضبط، فالأعمال المعروضة تحمل رسائل تواصلية وخطاباً له صفة العمومية، ينبغي تشديد الرقابة عليها. أيضاً المكتبات ومحال التصوير واستديوهات التسجيل ومستلزمات الطباعة والورق والمكتبات، جميعها تشترك في الطبيعة التداولية لمنتجاتها، ومعها مكاتب الدعاية والإعلان ومحال صيانة الكومبيوتر والإنترنت، فكل ما هو تداولي وشبكي يخضع للمراقبة اللصيقة.

لا يغير القرار الجديد كثيراً من الوضع القائم، لكنه يرسخه ويعلن المزيد من الابتلاع الأمني للفضاءات العامة وشبه العامة، والإمساك بكل خيوط التواصل بين المواطنين، بما فيها جلسات النميمة اليومية في صالونات تصفيف الشعر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها