الخميس 2021/08/19

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

أفغانستان:الدولة الاسلامية الثانية..بعد إيران

الخميس 2021/08/19
أفغانستان:الدولة الاسلامية الثانية..بعد إيران
increase حجم الخط decrease

النهايات السعيدة ليست من صنع السينما وحدها. ثمة نهاية سعيدة لا شك فيها سُجلت في أفغانستان في الايام الماضية، وأسدلت الستار على فصل دامٍ من تاريخ ذلك البلد الفقير وشعبه المعذب الذي قاتل وصمد وفاوض، طوال عشرين عاماً حتى نال الحرية والاستقلال، من دون قيد أو شرط.

وما يزيد من أهمية هذه النهاية السعيدة، أنها توجت بهزيمة منكرة لأميركا، يمكن ان تكون حاسمة في الحؤول دون إقدام الاميركيين على مغامرة عسكرية جديدة، في أي من دول العالم الثالث، أو على الاقل التفكير مطولاً قبل اللجوء الى الخيار العسكري، الذي دفع الشعب الافغاني ثمنه باهظاً جداً، من دون أن تكون له يدُ او علمٌ حتى بهجمات 11 ايلول سبتمبر 2001، على نيويورك وواشنطن.

الاحتلال الاميركي الذي دام عشرين عاماً ما كان له أي مبرر في الاصل. لم يكن يفترض ان تخاض حرب تقليدية بواسطة الجيش الاقوى في العالم مع تنظيم ارهابي مكون من مئات من المسلحين. الرغبة بالانتقام من هجمات 11 أيلول، دفعت الاميركيين الى ذلك الاستعراض الدموي للقوة والهيبة، الذي كشف تفاصيله الاولى الكاتب الصحافي الاميركي بوب ودورد في كتبه الوثائقية الثلاثة حول الحربين الافغانية والعراقية، عندما كان النقاش يدور داخل الادارة الاميركية برئاسة جورج بوش الابن، حول القرار بشن حملة الغارات الجوية الاميركية المدمرة على الاراضي والجبال الصخرية الافغانية لملاحقة تنظيم القاعدة.. بدلا من توجيه ضربات موجعة الى حواضر المسلمين ومعالمهم مثل مكة والقاهرة ودمشق وبغداد، حسبما اقترح وزير الدفاع الاميركي يومها دونالد رامسفيلد المتوفى حديثاً.

وحسب هذه السردية الاميركية، يبدو الثمن الذي دفعه الافغان طوال السنوات العشرين الماضية، كأنه فدية عن بقية المسلمين والعرب. وما عاناه الشعب العراقي مثلاً جراء إحتلال اميركي دام أقل من نصف هذه المدة، لا يقارن بذاك الثمن الافغاني. فضلا عن ان الحصيلة الافغانية النهائية للتحرر من الاجتياح الاميركي تبدو الآن بالذات، أفضل بكثير من النهاية العراقية الحالية التي لا يمكن ان توصف بأنها سعيدة.

في افغانستان اليوم، دولة تبنى من جديد، هي، بالمناسبة، الدولة الثانية التي تقيمها حركة طالبان، بعد دولة أولى أقيمت في العام 1996 على أنقاض دولة "المجاهدين الافغان" في أعقاب طرد السوفيات، ولم تعمر سوى خمس سنوات. دور أميركا في قيام الدولتين لا نقاش فيه. ولا جدال في الفوارق الهائلة بين الظروف الطارئة التي حكمت التجربة الاولى، وتلك التي تبنى على أساسها التجربة الراهنة.. بإستثناء قاسم مشترك واحد ربما هو جو التفاهم والوئام البارز اليوم بين الاميركيين وبين طالبان، الذي يشي بإنتقال سلس، هادىء، سلمي للسلطة في كابل، على ما تشهد وقائع الايام الماضية.

ومثلما يجدر الاستنتاج أن الخروج الاميركي الاخير من افغانستان هو دليل نضج ووعي وواقعية، يجوز القول ان حركة طالبان عبرت، حتى الآن على الاقل، عن قدر مماثل من الوعي والنضج والواقعية. وهكذا خيب الجانبان آمال الكثيرين من المراهنين على ان يكون التحرير لحظة وداع وفراق ونزاع، فإذا هي لحظة لقاء وتفاوض وتفاهم، يشمل حتى أدق التفاصيل الخاصة مثلاً بإخلاء العاصمة كابل من الاجانب والراغبين بالفرار، من دون أي حادث خطير يذكر، في ما يبدو أنه تنفيذ حرفي لاتفاقات الدوحة بين الجانبين.

ربما من السابق لاوانه، القول ان اميركا التي تزيح عن كاهلها العبء الافغاني الثقيل، تساهم بشكل مدروس في قيام دولة اسلامية في افغانستان، تحتكم للشرع الاسلامي، وتكون الدولة الثانية من نوعها بعد إيران. ومن المبكر الجزم في طبيعة الشريعة الاسلامية التي ستحتكم اليها طالبان، بعدما وجهت إشارات أولى تفيد بأنها لم تعد تخاف من المرأة، ولا من التعددية القومية والمذهبية كما من قبل، ولم تعد تخشى الاجنبي وترفض وجوده بالمطلق على أرض أفغانستان.

لعله مؤشر الزهو بالنصر، وهو مؤشر مؤقت بطبيعة الحال. لكن المؤكد ان الدولة الاسلامية، وليس الامارة الاسلامية التي ستعلنها طالبان، ستكون مختلفة كليا عن تلك التي أقامتها في تسعينات القرن الماضي. الارجح أنها ستكون أقرب الى النموذج الايراني، الذي يعتمد مرجعاً دينياً مطلقاً، يقيم حوله مجالس ومؤسسات مانعة لتحويل السلطة الى حكم جمهوري عصري. وهذا الشكل من الحكم الطالباني المتجدد في افغانستان يمكن ان يكون نقلة تاريخية كبرى من سلطة مجمع القبائل والعشائر والقوميات والمذاهب( لويا جيرغا) الى تجربة دولة تسير على خطى الدول القائمة في غالبية البلدان الاسلامية والعربية.

لكن تلك الدولة الطالبانية المرتقبة بحذر شديد، وتحفظ أشد، لن تكون بلا أثر. يمكن لأفغانستان، بعد فترة إنتقالية قصيرة، أن تتحول الى قبلة للاسلاميين من مختلف أنحاء العالم، ففيها يلتقي الباكستاني والهندي والصيني والسوري والمصري والسعودي والعراقي.. ويتناقشون في شؤون الامة الاسلامية ، وينتظمون في هيئات وجبهات ومنظمات تخطط لمواجهة التنظيمات الاسلامية الاشد تطرفاً، مثل تنظيم داعش الحاضر بقوة في أفغانستان والرافض علناً لكل ما تمثله طالبان، والذي يمكن ان يكون سبباً في تقويض تلك التجربة من الداخل الافغاني، وإعادة تلك البلاد البائسة الى سابق عهدها بالدم والدمار، وإعادة الحركة نفسها الى سيرتها الاولى التي لم تكن على ما تدعيه اليوم من إعتدالٍ وتسامح.  

حتى الآن، النهاية سعيدة. لكن الثقة باميركا تعادل الثقة بطالبان. وهما الآن قيد الإختبار: هل تصبح افغانستان دولة اسلامية عادية، أم تتحول الى فوهة بركان يرمي حِممه مجدداً في مختلف الاتجاهات؟         

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها