الأربعاء 2021/06/02

آخر تحديث: 07:17 (بيروت)

مصر المستقبل.. بلا ريف؟

الأربعاء 2021/06/02
مصر المستقبل.. بلا ريف؟
قطاف العنب في بلدة الخطاطبة-المنوفية تمهيداً لتصديره إلى أوروبا (غيتي)
increase حجم الخط decrease
بحسب مايك ديفيز، في كتابه المرجعي "كوكب العشوائيات"، فإن العام 2020 كان من المفترض به أن يكون نقطة التحول الفاصلة في التوازن السكاني، بين الحضر والريف، في العِلم، ليصبح بعدها سكان المدن أكبر من سكان الريف للمرة الأولى في التاريخ. إلا أن توقعات ديفيز، التي عمقت فهمنا لظاهرة الحضرنة الفائقة للحد، لم تستطع تقدير السرعة الكاسحة لعملياتها.

فسكان الريف تقلصوا إلى أقل من 44% قبل هذا التاريخ، أما في المنطقة العربية، فهبطت النسبة إلى 38%. وفي مصر، لا تعكس الإحصاءات الرسمية الوضع الديموغرافي بدقة، فما زالت الدولة تقدر عدد سكان الريف بنسبة 57%. فيما يبدو المشهد العمراني مختلفاً وأشد تعقيداً. فالعشوائيات التي تعمل كحلٍّ غير مرخص لتخزين الفائض البشري، تمتد من حافة الحضر لتصله بجواره الريفي، أو تربط بين العشوائيات المتناثرة داخل عشوائيات هائلة الضخامة تبتلع الفجوات الريفية المفتتة داخلها. ويضعنا ذلك أمام مشهد عمراني مخنث، لريف متحضر بشكل جزئي، في صيغة لا هي بالريفية ولا هي بالحضرية، بل مزيج من الإثنين، لينتج صور المدن الريفية، والقرى-المدن.

ولا يبدو تعيين نسبة سكان الريف هو وحده المعضلة، بل أيضاً تعريف الحضر ذاته في مصر. فتخلي النخب الحاكمة والطبقات الاجتماعية العليا عن القاهرة، وعملية هجرتها المتسارعة، ربما يكون المرحلة الأخيرة في الإقرار بواقع حضري مختلف بشكل جذري، لا تصبح فيه القاهرة مدنية هائلة متخمة بالعشوائيات، بل عشوائيات بلا مدينة.

في مطلع القرن الماضي، كانت مصر بلداً زراعياً بشكل شبه كامل، باعتماد شبه حصري على محصول واحد، هو القطن. لكن، في العام 1970، أصبحت الزراعة تساهم بنسبة 29% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أقل من الثلث. وبين 2000 و2017، تراجعت النسبة إلى 13%، وهبطت في العام الماضي إلى 12% فقط. ورغم الخطط الطموحة والناجحة بشكل مضطرد، والتي وضعتها الدولة لاستصلاح الأراضي وزيادة إنتاجية الفدان وتطبيق التقنيات المتطورة والاستثمار في البحوث العلمية الزراعية، فإن ارتفاع الناتج الزراعي المتوقع في الأعوام الخمسة المقبلة، لن يستطيع اللحاق بالنمو السريع في عدد السكان أو الحجم الكلي للاقتصاد. ولو استمرت تلك المعدلات في المستقبل القريب، فعلى الأرجح ستتقلص مساهمة الزراعة إلى نسبة هامشية، تتراوح بين 5 و6% من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول العام 2050.

في العام 1970، كان نصف السكان القادرين على العمل في مصر، يشتغلون بالزراعة. وبعد عقدين، في العام 1991، هبطت النسبة إلى 39%. وبعد عقد واحد فقط، تسارعت معدلات الهبوط إلى الضعف، لتصل النسبة إلى 30%. وبنهاية العام الماضي، أصبحت حصة المشتغلين بالزراعة 23.8% من عدد السكان.

لكن تلك الأرقام لا تعكس الواقع الحقيقي، فعدد كبير من المشتغلين بالزراعة يعملون في وظائف أخرى في القطاع الحكومي أو الخاص في الريف، أو يعملون بشكل موسمي في الحضر أو في الدول الخليجية. ويمثل النشاط الزراعي لنسبة معتبرة من سكان الريف، عملاً مؤقتاً أو موسمياً أو جانبياً، بل وأحياناً يكون طقساً اجتماعياً. لكن لو أخذنا بتلك الإحصائيات، فإن نسبة العاملين بالزراعة، ربما ستهبط إلى 10% أو أقل، خلال العقود الثلاثة المقبلة.

تضعنا تلك الحقائق، والتكهنات المرتبطة بها، أمام سلسلة من التحديات: كيف يمكن لمصر، البلد الذي ارتبطت صورته دائماً بوادي النيل الخصب، أن نتصوره بلا ريف تقريباً في المستقبل المنظور؟ كيف سيمكننا تحقيق أمننا الغذائي حينها؟ وما القطاعات التشغيلية القادرة على استيعاب الزيادة السكانية؟ وتُضاعف التهديدات المتعلقة بحصة مصر من ماء النيل، من حجم تلك الأسئلة، لكنها، في الوقت نفسه، تجعل من ضرورة التصدي لها أمراً أكثر إلحاحاً، وغير قابل للتأجيل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها