الأربعاء 2021/03/31

آخر تحديث: 07:57 (بيروت)

اللقاح: يانصيب الموت المصري

الأربعاء 2021/03/31
اللقاح: يانصيب الموت المصري
مركز للتلقيح في القاهرة (غيتي)
increase حجم الخط decrease

يدور عدّاد الموت برتابة، لكن في انتظام. مواسم القطارات المتصادمة لا تخلف مواعيدها، كما أن طقوس استخراج الجثث من حطام العلب المعدنية، علامات ثابتة على روزنامة المصائب. مرات تعيد الكارثة نفسها في مصر، المرة الأولى على شكل مأساة، والثانية وما بعدها تظل مأساة، إلا أن ما يتغير هو جمهورها، حين يفقد حسه المأسوي بالاعتياد، وحين يضحي الحزن واجباً منسياً أو مملاً أو مصطنعاً أو عابراً في أفضل الأحوال. الوزراء الذين ما عادوا يستقيلون بعد كل كارثة، لم يفقدوا حياءهم فقط، بل يتفاخرون في تبجح بأنهم لا يعرفون الاستسلام. الأمر لا يخرج عن كونه تحدياً شخصياً أمام الوزير صاحب البزة العسكرية سابقاً، فكيف تفتُّ ثلاثون جثة من عزيمته أو خمسون أو أكثر! الوزراء باقون، أما العويل على قتلى المبنى المنهار، فتغطيه أصوات التصفيق بتحرير السفينة الجانحة في قناة السويس، بمشاعر الوطنية الفائضة، الوطنية بأصحابها المكسورين والباحثين عن حجة لانتهاز الفرح في غير موعده.

بعد حصاد للموت، بطول عام، وآلاف الضحايا الذين سقطوا وما زالوا يسقطون، وسط صمت الازدراء والإنكار، يصل اللقاح أخيراً. أنما يأتي معه كشف للحقائق المعروفة سابقاً، كبديهة تكتسي قوة الصدمة فجأة. فليس لدينا في مصر قاعدة بيانات صحية مركزية، لا كلّية ولا حتى بشكل جزئي. في بلد تاريخه يتماهى مع تاريخ المركزية، تحتفظ الدولة بتصنيف دقيق شامل وممركز، لأديان المواطنين، لحالتهم الاجتماعية، لوظائفهم، لسجلهم الجنائي، لخدمتهم العسكرية، ولأشياء أخرى كثيرة، لكن لا قاعدة بيانات لصحتهم، أو أمراضهم المزمنة. كيف يوزع اللقاح إذاً وبأي طريقة تحدد أولويات الفئات العمرية والمهنية، والأشخاص الأكثر عرضة للخطر؟ وفي ظل تهوين رسمي من شأن الوباء، يصل إلى حد التعتيم المقصود، كيف تشجع المواطنين على الحصول على اللقاح، وسط فيض من الإشاعات ونظريات المؤامرة؟

تضطر الدولة للارتجال. ومع محدودية عدد اللقاحات، تلك التي لا تكفي ولو لاثنين في المئة من عدد السكان حتى الآن، فكل لقاح يعني الخط الفاصل بين الحياة والموت لملايين من كبار السن، وكل يوم تأخير يعني إزهاق مئات الأرواح. إلا أن غياب منظومة حقيقية للتأمين الصحي بسجلات طبية لجميع المواطنين، يعني أنه لا يبقى أمام الدولة سوى الارتجال. تعلن وزارة الصحة عن منظومة للتسجيل الإلكتروني للراغبين في تلقي اللقاح، وبعد بعض التخبط، تتراجع عن عدم مجانية التطعيم، إلا أن منظومة التسجيل تبدو غير مقنعة مطلقاً، وظالمة إلى درجة فاحشة. يُطلب من المواطنين أن يرفقوا ما يثبت استحقاقهم للأولوية، فمن سيبت في المستندات المرفقة؟ وكم سيستهلك ذلك من الوقت؟ وبأي طريقة ستحسب معادلة الأولوية؟ وكيف تقدر أوزان معاملات الأمراض وخطورتها وطولها وأنواعها وارتباطها بالفئات العمرية؟

لا تعلن الإدارة الصحية أي تفاصيل عن هذا كله، ولا يبدو أن هناك تفاصيل ليتم الإفصاح عنها بالأساس. يميز التسجيل الإلكتروني ضد ملايين من الأميين من كبار السن، والمحرومين من ميزة الولوج إلى الإنترنت، الفقراء وسكان الأرياف والأطراف وعشوائيات الحضر والأقاليم المحرومة من الخدمات، وخصوصاً المسنين المعزولين اجتماعياً. هكذا، تحمل رقمنة اللقاح، وبلا قصد على الأغلب، طبقيتها المباشرة والمميتة، واستهدافاً غير مباشر للفئات الأكثر هشاشة.

كل التفاصيل التي توافرت بخصوص عملية التسجيل كانت تشي بنتيجة فيها قدر كبير من الفشل الممزوج بما يتجاوزه من الظلم. لكن، وبمجرد تسارُع وتيرة التلقيح خلال الأيام القليلة الماضية، اتضح حجم الكارثة. مسنّون بأمراض مزمنة قاموا بالتسجيل قبل شهور، ما زالوا في الانتظار، أحفادهم وأولادهم في صحة كاملة يسجلون بعدهم فيحصلون على موعد في اليوم التالي، سياح أجانب في منتصف العشرينات يصلون إلى القاهرة اليوم فيحصلون على اللقاح في الغد، وطبيب فوق الستين ويعاني مرض القلب، ينتظر شهوراً ولا يحصل على اللقاح، حتى يصيبه المرض ويقتله قبل أيام. كل من سارع إلى التسجيل باكراً، حين كانت مراكز التلقيح قليلة، أمامه لوائح انتظار طويلة. أما من سجلوا مؤخراً، بعدما تضاعف عدد المراكز، فتصلهم مواعيد للتلقيح في أقل من 24 ساعة. الأحياء المكتظة بالسكان، وهي الأفقر بالطبع، أمامها وقت طويل، الأحياء منخفضة الكثافة على العكس بشكل بديهي.

منطق تصميم قاعدة بيانات التسجيل، والتي تفتقد إلى المركزية، بحيث تحدد الأولوية بحسب مكان التسجيل الجغرافي وعدد الطلبات فيه، لا بحسب الأولوية الفعلية على مستوى الجمهورية، تصميم معيب بشكل جذري وفادح. وليس هذا فحسب، بل إنه منطق يعاقب من سعوا إلى التسجيل أولاً، ويكافئ من سجّل متأخراً. هكذا تقدم منظومة التلقيح المصرية نموذجاً مأسوياً لكيفية تحول قاعدة بيانات رقمية، مع الكثير من رعونة مصمميها ولامبالاة النظام السياسي، إلى منظومة دقيقة للقتل الخطأ ويانصيب للموت يستهدف الضعفاء. لكن، ربما ليس في هذا كله أي عشوائية، فآلية التلقيح تعكس ببساطة غير مقصودة ولا واعية، كل طبقية ولا عدالة مؤسسة الدولة التي أنتجتها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها