الأربعاء 2021/03/24

آخر تحديث: 07:31 (بيروت)

نوال السعداوي المدافعة عن الإسلام

الأربعاء 2021/03/24
نوال السعداوي المدافعة عن الإسلام
increase حجم الخط decrease

"لكن هذا التيار التحريري المتصاعد يتلقى الضربات من الداخل والخارج، وللحفاظ على مصالحه الاقتصادية، تتخذ القوى الغربية وسائل متعددة لمقاومة ذلك التيار الشعبي المتزايد. إحدى هذه الوسائل أنها تصطاد أي ثغرة في الإسلام مثلًا كي تبرزها وتسلط عليها الأضواء، كما حدث عندما ارتفعت الصيحات في الصحافة الغربية مُندِّدة بأن الثورة الإيرانية حركة رجعية؛ لأنها تفرض على النساء الحجاب أو «الشادور» وتعود بها إلى القرون الوسطى. وهي محاولات غير مباشرة لإجهاض الثورة الإيرانية وتفريغها من مضمونها السياسي والاقتصادي وتصويرها على أنها مجرد ردة دينية متعصبة متخلفة. وتتسم مثل هذه المحاولات بالحرص والذكاء؛ لأن التيار الديني الإسلامي، وإن وحَّد الشعوب وساعد على تضامنها ضد الاستعمار الغربي، إلا أنه أيضًا يحمي المنطقة من الغزو الاشتراكي أو الشيوعية، التي صُورت على أنها حركة إلحادية ضد الدين".
(نوال السعداوي، "تأملات في الكتابة والمرأة والسياسية"-2016).

يوجز هذا الاقتباس القصير، ببعض الاختزال، موقف السعداوي من الإسلام. موقف بقى راسخاً، رغم التحولات والتقلبات الملبدة من حولها على مدى سبعة عقود، أي منذ تخرجها من كلية الطب في مطلع الخمسينات من القرن العشرين، حتى وفاتها قبل أيام قليلة. تغيرات لحقت بالإسلام نفسه، كما طاولتها وطاولت كل شيء آخر. ولا يهدف الاستشهاد بهذا المقطع من نصها، لتنصل أو اعتذار بالنيابة عنها أمام منتقديها، أو تبرئتها من تهمة تجرؤها على الدين أو غيرها. ولا يلزمنا الخوض في دورة الجدالات النيكروفيلية، الساعية إلى التمويه على عجزنا أو جزعنا من مواجهة هوة الحاضر، بتحقيق الانتصارات حول الجثث المعنوية للموتى. إلا أن في سيرة السعداوي قدراً من التناقضات الحادة والمزعجة، ما لا يمكن إغفاله أو تجاهله، ولا يصح التصدي له بمجرد المحو الانتقائي للعقد الأخير من تاريخها، أو توليف توازن حسابي لميزان الصواب والخطأ في سيرتها، تميل كفته لصالحها أو ضدها.

تطل علينا شهوة قتل الأم، مسيطرة ولو بشكل غير واعٍ على منتقديها من داخل شرائح اليسار أو الدوائر النسوية الأكثر راديكالية. وربما يعود بعض الفضل إليها هي تحديداً، في تحليق أشباح للأمومة في فضاء مثلنا العليا، القاحل والمقتصر على الرجال. فكتبها التي، لأجيال متعاقبة، كانت غنيمة التلصص على أدارج الأهالي المقفلة والمحّرمة، بعنوانيها الصادمة بمجازات الوضوح، كانت الخبرة الأولى للكثيرين نحو التعرف على النسوية وما بعد الاستعمار، بل وحتى أفكار المشاعية البدائية، الأقرب إلى إنغلز منها إلى ماركس، وإلي روسو أكثر من باكونين.

وفي أذهان الكثير منا، تطابقت صورتها وسيرتها مع جرح نازف ومفتوح، عضو أنثوي مشوه ومخيط بأسلاك صلبة من نحاس (هذا دائماً ما تصورته في مراهقتي بفضل قراءتها).. ألمٌ لا يندمل ولا يمكن تعويضه، لمعاناة عممتها بالكتابة عن نفسها وسجيناتها ومريضاتها، وبمطابقتها لنصوصها مع ممارستها اليومية، لتتوحد فيها صورة لنسوية غاضبة وحنونة وهوجاء بقدر ثقل الوجع.

ومع هذا كله، فعلينا أحياناً تدمير الماضي، وهي جزء منه، لنتمكن من العيش بوعي متقد في الحاضر. أو بطموح أقل مخاطرة، ربما نود لو نمنح أنفسنا ماضياً بديلاً عن الماضي الذي انحدرنا منه بالفعل. في ذلك الكثير من الصحة، لكن التاريخ لا يمكن التغلب عليه سوى بالتاريخ، أي علينا الرجوع إليها، كواحدة من الأمهات المؤسسات وأكثرهن حضوراً، بغية خلق نقطة انطلاق تجمع بين النسيان المتعمد وتصفية الحسابات مع الماضي.

بالتأمل في سيرة السعداوي التي سارت بالتوازي مع تاريخ دولة ما بعد الاستقلال، نراها ترتكز على أسس ثلاثة: النسوية، ومقاومة الاستعمار، والنضال ضد الاستغلال الطبقي. بوضوح أعلنت، مرة بعد الأخرى، أن مواجهتها هي مع المجتمع الأبوي لا مع الرجال، وهاجمت النظرات الثقافوية ونسخها الاستشراقية الرديئة من النسوية، والتي تصورت الإسلام بوصفه جوهراً للأزمة. وبدلاً من ذلك، رأت السعداوي، البطريركية، كفرع أو ركن من مؤسسة المجتمع الطبقي، والنساء في الشرق والغرب مقموعات في ظل نظام رأسمالي، ومختونات جسدياً وروحياً وثقافياً، بتفاوت في الدرجة، لا النوع. والحال، أن تضافراً بين المستويات الثلاثة للقمع والمقاومة التي وجدت السعداوي نفسها داخلها واختارتها بوعي، أتاح مساحات ضئيلة للمناورة، وحتم خيارات ومواقف شديدة التعقيد والتراكب والمخاطرة في الوقت نفسه.

في الفقرة المقتبسة أعلاه، يختل التوازن العسير والمتقلقل دائماً بين أولويات السعداوي، بهزة كافية لتبني خطاب ضد استعماري يبرر ضمناً ويدافع بشكل غير مباشر عن فرض "الشادور"، بل ويعتبر نقده انتهازية غربية. وبقولنا هذا، علينا الاعتراف بأن الموقف من الثورة الإيرانية داخل دوائر اليسار العالمي كان ملتبساً إلى أقصى حد، ومشتتاً بين عداء للحداثة الغربية بنسختيها الماديتين، الرأسمالية والسوفياتية، وبين حنين إلى ثورية أصولية تنبثق من هامش العالم الروحي. في هذه الفقرة، يبدو شطط السعداوي- على عكس ما يروج منتقدوها من معسكر الإسلام السياسي- يكمن في مبالغة دفاعها عن الإسلام، إلى حد التفاوض على بداهات نسوية. ورغم ما يمكن استشفافه في بقية النص، للتدليل على موقف تأويلي اتجاه الإسلام والدين عموماً، فإن السعداوي تعود لتناقض نفسها، حين تقول: "الإسلام كأي دين آخر لا يمكن أن يُفهم من خلال نصوص متفرقة... لكنه يُفهم من خلال مبادئه الأساسية التي تنادي بالمساواة والعدالة"، مفترضة طبيعة جوهرانية وكلية للدين، ثابتة وراسخة ومتجاوزة للتأويل.

ذلك الشطط الذي نراه متكرراً في عقدها الأخير، على محور مختلف، لكن بدوافع متشابهة، يتحول بكثير من العناد وتصلب السن المتقدمة إلى عمى تشاركته مع جيل كامل أو معظمه. وليس ما يعنينا هنا هو إدانتها أو تبرئتها، ولا حتى اختلاق الأعذار لها، بل التصالح مع سيرتها، بالتعلم من زلاتها قبل أي شيء آخر، كدرس في هشاشة تلك الأرضيات التي نقف عليها وبين تقاطعاتها، في مواجهة أنظمة متراكبة ومتوازية للظلم والاستغلال، أي التصالح معها كتاريخ، جوهر تاريخيته هو إمكانية الخطأ بقدر إمكانية الصواب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها