الأربعاء 2021/03/17

آخر تحديث: 06:28 (بيروت)

"سيدة السلام" وفائض التفتيت الجماعي

الأربعاء 2021/03/17
"سيدة السلام" وفائض التفتيت الجماعي
عائلة مصرية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يمكن لجريمة "سيدة السلام" أن تخبرنا بما نعرفه بالفعل. أن يقتحم الجيران شقة السيدة ليضبطوها في صحبة رجل غريب، أو بهذه الحجة لغرض آخر، فهذا حدث ليس بالاستثنائي في حي قاهري، مثل حي "السلام". لكن أن يعتدي الجيران عليها بالضرب لتسقط من شرفتها، فالقتل هنا هو ما جعلها قضية جاذبة لاهتمام وسائل الإعلام وموضوعاً للجدل العام. لا شيء أكثر بداهة في مدينة كالقاهرة، من تلصصها الجماعي، ومن السلطة الهائلة للآخر المحتشد على الفرد، هذا الجهد الشعبي المشوب بالغضب والحماس لاقتحام حرمة الحياة الخاصة، تعريتها وفضحها بغرض العقوبة والأذى والضبط، وعلى الأخص حين يتعلق الأمر بالنساء وأجسادهن.

كثيراً ما تؤطر تلك الظاهرة داخل قراءة ثنائية، تقسم المجتمعات بين فردية وأخرى جماعية. الأولى، الغربية بالضرورة، أكثر حرية واحتراماً للحياة الخاصة، أما الثانية، الفئة التي توضع ضمنها مجتمعاتنا، فتميل إلى تغليب سطوة الجماعي على الفرد. تذهب تلك الثنائية أبعد من تفسير القمع الأهلي المتبادل، فبحسبها تنتج المجتمعات الفردية أنظمة ديموقراطية، وفي المقابل تتمخض المجتمعات الجماعية عن أنظمة حكم سلطوية. هكذا، يعود ذلك المخطط بالمشكلة إلى المجتمع، إلى مجمل ثقافته، العادات والتقاليد وبُنى الأسرة والدين وغيرها، وبالتالي تعد الثقافة منتجة لسلطوية البنى السياسية. أي بمعنى آخر، تحكم علاقة المجتمع بالنظام السياسي، تراتبية تسرى فيها القوى من القاعدة إلى أعلى، وعبرها يمكن فهم نظام الحكم في مصر وممارساته الأمنية القمعية كصدى للظاهرة الأصلية، أي المجتمع، تلك المتمثلة في أكثر صورها مأساوية، في جريمة"سيدة السلام".

إذاً هل السلطوية حقاً هي فائض التلاحم المجتمعي أو إفراطه؟ وهل المجتمع في مصر، مجتمع جماعي بالأساس؟ تفترض تلك الأسئلة تنميطات جوهرية للثقافات غير الغربية، ثبت في أحيان كثيرة افتقادها للأساس القابل للفحص. على سبيل المثال، يفكك الباحث الأميركي، غاري غريغ، في كتابه "الشرق الأوسط: سيكولوجيا ثقافية"(2007)، تلك الثنائية بين الشرقي والغربي، وبين الثقافة الجماعية والثقافة الفردية، بل ويصل ضمناً في إطار بحثه المركّز على المغرب، إلى أن معضلة المجتمع هناك ربما تكمن في فرديته المفرطة. يظل تحليل غريغ ثقافوياً، يتجاهل التغييرات التي أقحمتها الحداثة على شكل المجتمع شرقاً وغرباً، وأيضاً لا يلتفت إلى تقلد الدولة الحديثة ونظامها السياسي جل وظائف المجتمع التقليدية. وفضلاً عن ذلك، فإن فرضية تولد النظام السياسي من بنية المجتمع، تتأسس على تصور طبيعي وآلي لعلاقة الإثنين معاً، تصور يتعامى عن العامل القسري لنشوء النظم السياسية على اختلافها.

إن قبلنا بتصور هرمي بديل، تسري فيها القوى من القمة إلى القاعدة، أي من السياسي إلى الأهلي، فسنتبيّن أن جريمة "سيدة السلام" ليست سوى انعكاس لممارسات السلطة القمعية. يسعى النظام المصري، ككل حكم استبدادي آخر، إلى تذويب الروابط الجماعية، العمل الحزبي والثقافي والأنشطة الأهلية والمنظمات غير الحكومية. تعتمد السلطوية على مبدأ التفتيت والعزل، ووضع الكل في مواجهة الكل، مشاعر الخوف وعدم الثقة والتوجس، القرينة بالديكتاتوريات، مشاعر ضد اجتماعية بالضرورة. يبقى الانتماء إلى الوطن، الكيان الغامض الذي يتطابق أحياناً مع النظام السياسي، أي علاقة صورية تفتقد إلى المضمون، أو علاقة ولاء نحو رأس السلطة في أفضل الأحوال.

"لا شيء اسمه المجتمع"، شعار مارغريت ثاتشر الشهير، لا يذكرنا فقط بأن المجتمع مقولة سياسية بالأساس، بل وأيضاً بالدور الذي لعبته النيوليبرالية، منذ الثمانينات، في تحطيم المجتمع عمداً وفردنة أعضائه على أساس خطابات المسؤولية الذاتية والمنافسة. غير أن المدهش، وعلى عكس التنميطات الرائجة، فإن دولة الرفاه في الغرب، ورغم تخففها من الكثير من أدوارها، هي ما احتفظ بفكرة المجتمع وجماعيته، فيما تخلصت أنظمة الحكم في بلد مثل مصر من عبء الاجتماعي، وعوضت غياب الدولة عن أدوارها الرعائية، بحضور دائم وممتد لمنظومة القمع تعمل على تحطيم مضاعف للفكرة الجمعية ووشائجها.

يكفي أن نراجع الحملة الأمنية التي تشنها الدولة حالياً ضد النساء، والممارسات المستدامة لتدخل جهاز الشرطة في الحياة الخاصة للمواطنين، وتتبعهم بناء على ممارساتهم وميولهم الجنسية، حتى نتبين أن معتدي جريمة "سيدة السلام" يتقمصون دور رجل الأمن وينسخون ممارسات الدولة، بل ويستندون أحياناً إلى نصوص القانون. التلصص على حرمة الخاص واقتحامه، استخدام العنف خارج إطار القانون، وَضعُ الجميع في دائرة الاشتباه والمراقبة، فَرضُ المعايير بالقوة القسرية وإرغام الآخرين عليها، وكذا استهداف الفئات الأكثر هشاشة،.. يشترك في تلك الممارسات كل من رجل الأمن والمواطن، لا كعلامة على فائض الاجتماعي، بل على العكس، تفسخه، إلى الحد الذي تصبح فيه الطريقة الوحيدة للشعور بالجماعية وممارستها، هي مراقبة الآخر، التربص به، وإيذاءه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها