الأربعاء 2021/12/01

آخر تحديث: 01:06 (بيروت)

الكيمتية: العرض الجانبي للفراغ

الأربعاء 2021/12/01
الكيمتية: العرض الجانبي للفراغ
معبد الكرنك في الأقصر (غيتي)
increase حجم الخط decrease
كيمت، واحد من أسماء مصر القديمة. أما الكيمتية، فوصف كان يطلق على سبيل التهكم في الأعوام القليلة الماضية، على حزمة من الأفكار والخطابات والانتماءات ذات المرجعية الفرعونية. لكن حضور الكيمتية وخطابها في وسائل التواصل الاجتماعي واتساع رقعته، مع تسرب بعض مفرداته إلى وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة، ربما يلزمنا بمقاربة الظاهرة بجدية أكثر من السابق.

في مطلع القرن العشرين، ظهرت "الفرعونية الجديدة" كحركة جمالية بالأساس، مرآة لعمارة الكلاسيكية الجديدة المتأثرة بالطرز اليونانية والرومانية. في السياق المصري، كان هذا يعني دمجاً لعناصر من الفن والعمارة الفرعونية، في التصميمات والفنون الحديثة. إلا أن "الفرعونية الجديدة" كما نفهمها اليوم، بأثر رجعي، اشتملت على عناصر تتجاوز الجماليات الشكلية. ففي خضم النضال الوطني لأجل الاستقلال، تم تضمين الفرعونية كواحد من عناصر الهوية القومية، التي كانت لا تزال في طور التشكل. من ناحية تكتيكية، برر الانتساب إلى حضارة عريقة ذات إنجازات عظيمة، المطالبة بالاستقلال، فأبناء ذلك التاريخ قادرون بلا شك على حكم أنفسهم، بل واستعادة أمجاد الماضي. وعلى مستوى الانقسامات الطائفية، كان الانتساب الفرعوني يضمن أصلاً مشتركاً وموحداً لعنصري الأمة من أقباط ومسلمين.

إلا أن قطيعة تاريخية شاسعة، تعد بآلاف السنين، بين مصر القديمة والمصريين المحدثين، كان من شأنها أن تجعل الفرعونية الجديدة مجرد استعارة بلاغية في إطار عمليات تشكيل الانتماء، ومادة جاهزة لزخرفة الجدران الخارجية للهوية المصرية الحدثية، وتجسدها في الفضاء العام وعمارة مؤسسات الدولة وشعاراتها البصرية. لهذا، كانت لحظة الفرعونية الجديدة مقتضبة وعابرة، وما بقي منها ظلّ رمزياً وشكلانياً معظم الوقت.

بلا شك، هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الفرعونية الجديدة والكيمتية، لكن الثانية ليست نسخة أحدث من الأولى، ولا هي امتداد لها بشكل من الأشكال، فالفوارق بينهما أكثر جذرية مما يبدو للوهلة الأولى. ولا يمكن الجزم بما تعنيه الكيمتية حقاً، فخطابها الهش متناثر بشكل غير مركزي في وسائل التواصل الاجتماعي، ويصعب حصره، ومع هذا يمكن الإشارة إلى بعض السمات الغالبة، وإن كان لا يجب اعتبارها حصرية.

تتميز الكيمتية بسمة أصولية. ومثلها مثل غيرها من الأصوليات، فهي تنسب نفسها إلى عصر ذهبي، يرقد في الماضي البعيد، وكلما أوغلنا في القدم كانت أصالة ذلك الانتماء أكثر تجذراً. في الأغلب تأتي الأصولية والإحيائية كثنائية متلازمة. وعلى المنوال نفسه، لا تكتفي الكيمتية بالصلة الجينولوجية مع الماضي، بل تبشر بنوع من البعث، سواء على مستويات بيروقراطية تستهدف تعليم اللغة المصرية القديمة في المدارس وترميم الآثار، أو على مستوى ميتافيزيقي، له خواص شبه سحرية، فالتواصل مع روح التاريخ بالرجوع إلى الأصل، والتحدث بلغة الأجداد على سبيل المثال، يعنى إطلاق طاقات الماضي المكبوتة، واستعادة أمجاده وإمبراطورياته.

بالسلب، تعرف الاصوليات الإحيائية نفسها. فمفهوم النقاوة الأصلية يستلزم شوائب وعناصر دخيلة وملوثة ينبغي تنقيتها وعزلها بغية الاستعادة. يأخذ مفهوم السلب في الكيمتية أبعاداً ثقافية أكثر منها عرقية. فالهوية العربية بصورتها الناصرية على الأخص، والأصولية الإسلامية ممثلة في حركات الإسلام السياسي الحديثة، هو ما تسعى الكميتية إلى نفيه، وتنقية الروح المصرية من ملوثاته.

وبالرغم من توظيف النظام للعناصر الفرعونية بكثافة في عمليات البروباغندا الاستعراضية مؤخراً، إلا أنه من الصعب الادعاء بأن آلاته الإعلامية أو السياسية هي ما يقف وراء الصعود المتزايد للكميتية. على العكس، فما يظهر هو أن الخواء الأيديولوجي لخطاب السلطة، هو ما أفرز هذا النوع من الأصولية. فالمعادلة الأمنية للحكم، القائمة على استعداء الإسلام السياسي ونسخته من الأصولية، مع افتقادها لأي سند أيديولوجي بديل، تركت فراغاً يحتاج للملء بشكل مُلحّ، وبالأخص لدي أصحاب النزعات التنويرية المائلة تجاه اليمين. يتقاطع خطاب السلطة مع الكيمتية، عرضياً على الأغلب، ولعل العلاقة بينهما لن تتجاوز جوانبها الاستعراضية والدعائية، وهكذا تبقى الكيمتية ظاهرة هامشية وسطحية، لا تشكل خطراً على أحد، لكن دلالاتها الأهم تكمن في أنها علامة متضخمة على الخواء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها