الخميس 2021/01/07

آخر تحديث: 17:37 (بيروت)

أميركا كجمهورية موز

الخميس 2021/01/07
أميركا كجمهورية موز
increase حجم الخط decrease
للتذكير فقط، أن السياسة هي واحدة من أخطر المهن في أميركا، وأن واشنطن هي واحدة من أكثر المدن إزدراءً في أميركا، وأن مبنى الكونغرس بالذات، هو حصن المؤامرات والمناورات والصفقات، التي تتيح للحكومة الاتحادية التدخل المنبوذ في الحياة اليومية للاميركيين.

وللتذكير أيضاً أن أميركا هي قائدة "العالم الحر" حسب التعبير الذي شاع في أعقاب إسهامها الحاسم في النصر خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تصبح قدوة أو مثالاً لأي من حلفائها في تلك الحرب، الذين ظلوا يعتمدون نماذجهم الخاصة المستمدة من التاريخ الاوروبي، ورددوا أكثر من مرة الإتهام بأن التجربة الاميركية هي أسيرة فلسفة القوة والسلاح ورهينة سطوة المال والفساد في الحياة السياسية.. عدا عن كونها فديراليتها المعقدة قائمة على قوانين إنتخابية عجيبة، لا يفهمها الناخب الاميركي نفسه.

وبناء على ما تقدم، لم تصمد طويلاً نظرية محاولة الانقلاب او التمرد التي ألصقت بمئات المتظاهرين الغاضبين، الذين أرسلهم الرئيس دونالد ترامب نفسه، وتمكنوا من إحتلال مبنى الكونغرس من دون مقاومة تذكر، فعاثوا به فساداً، وعطلوا لبضع ساعات عملية فيدرالية دستورية مهمة حساسة، قبل ان ينسحبوا عائدين الى منازلهم، ويسلموا مع رئيسهم بفوز منافسه جو بادين.

وعدا عن وسائل الاعلام الاميركية التي هالها مشهد إحتلال مبنى الكونغرس، فإن الجمهور الاميركي لم يبد إكتراثاً بما كان يجري في عاصمته الاتحادية، بل سخر من التظاهرة الهزيلة التي قادها ترامب نفسه، ولم يشعر بالحاجة الى تنظيم تظاهرات مضادة، ولا بالخوف على ديموقراطيته ومؤسساته، ولا طبعا على محفله التشريعي الأهم، الذي لم يكن تحت حراسة مشددة، ولا كان مهدداً بالحرق ولا بالتدمير.. من جانب ثلة من الرعاع الذين إدعوا أنهم طليعة نحو 75 مليون ناخب صوتوا لترامب، وعبروا عن غضبهم الشديد مما إعتبروه سرقة لنتائج الانتخابات.

لم ولن تكون تلك الليلة نقطة تحول في التاريخ الاميركي. كان كثيرون من الاميركيين يتوقعون أسوأ منها وأخطر، مثل تعطيل عملية التسليم والتسلم للرئاسة في العشرين من هذا الشهر. وبهذا المعنى خيبت واقعة إحتلال الكونغرس لبضع ساعات، توقعات، وربما آمال أميركية واسعة:هل هذا أقصى ما يمكن ان يفعله رئيس أخرق، صلف، نزق.. لعب ورقته الاخيرة، بطريقة مسرحية مثيرة، وفشل في تغيير النتائج وفي تأجيل رئاسة بايدن، وسلم بسرعة بالموعد الدستوري للتناوب على السلطة، وبحكم المؤسسة وقرارها النهائي.

ثمة فارق كبير بين القول إنها "ليست أميركا التي نعرفها بل هي أشبه بجمهورية موز.." وبين القول بأن "هذه هي أميركا التي شهدت تحولات جذرية على مدى العقود الاربعة الماضية، توجت بالاستقطاب الحاد الذي مثله ترامب بالذات"، بين أرياف يمينية عنصرية شعبوية، وبين حواضر رائدة في العلوم والثقافة والإقتصاد.

ما جرى بالامس كان عينة بسيطة، مثيرة بلا شك، مما ستشهده أميركا في المستقبل من عواقب ذلك الاستقطاب، الذي يمكن ان تخرقه بين الحين والاخر مسرحيات درامية جذابة، تضحك الاميركيين وتحبس أنفاس العالم، لساعات..من دون المس باللعبة الديموقراطية الفريدة، التي تتسامح مع مثل هذا الاداء، لكنها لا تزال تتمتع بضوابط خاصة، لحفظ التوازن الدقيق، الذي يمنع التسلط من جانب أي ولاية أو أي شريحة إجتماعية، على الحياة السياسية.. إلا بالمال، أو السلاح!

لم يكن هناك من داعٍ أبداً لذلك التفجع على الديموقراطية الاميركية التي لم تكن يوما الاكثر تقدماً او نزاهة من باقي الديموقراطيات الغربية، ولم تكن أبداً قبلة الديموقراطيين في العالم، ولا جمهوريتهم الفاضلة، بل ناشرة الاستبداد وحارسته في مختلف أنحاء العالم. ردود الفعل الاوروبية الغربية (عدا فرنسا) على الحدث الاميركي، حصرت الأمر بالعنف المدان، والرئيس الجامح، لا أكثر ولا أقل. من دون التعبير عن الخوف على تلك الديموقراطية التي لا تنفع لغير الاميركيين.

كانت ليلة مشوقة فعلاً. لكنها لم تكن غريبة عن أميركا، وتقاليدها السياسية الخطرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها