الثلاثاء 2020/03/10

آخر تحديث: 13:55 (بيروت)

كورونا: فيلم عن الغيتو

الثلاثاء 2020/03/10
كورونا: فيلم عن الغيتو
اشتباك أهالي المساجين والشرطة بعد موت 6 مساجين إثر تظاهرات داخل السجون، والأهالي يستنكرون تقليص الزيارات بسبب كورونا (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أفلام الخيال العلمي ورواياته، وكل المحاولات الحمقاء للقفز من أعلى الجبل بجناحين من ريش، جميعها تتنبأ بالمستقبل، تتصوره، أو بالأحرى تصنعه. ليس الخيال العلمي وحده ما نراه متحققاً اليوم، بل أفلام الرعب، والديستوبيا، نسخ واقعية باهتة تحاكي هوليوود وسينما الكارثة، الإعصار وغزو الكائنات الفضائية والأوبئة والهجوم النووي. الخوف الدفين من الطبيعة ومن الغرباء والمجهول، يعود بأكثر أشكاله بدائية وأكثرها تعقيداً. سلطة الدولة تتمدد بأبعاد "أورويلية"، نشرات الأخبار تشبه فيلماً عن الهولوكوست أكثر من أي شيء آخر. من "يوهان" الصينية، التي اختفت عن وجه الخريطة عملياً، يتسرب القليل من الأخبار، الأسوار بُنيت على الطرق السريعة، البوابات المعدنية تم لحامها لمراقبة حركة الدخول والخروج إلى البنايات، الجنود يحفرون خنادق في الشوارع لمحاصرة السكان. القليلون الذين ألقوا بأنفسهم في النهر للفرار إلى الجهة الأخرى، اصطادتهم شباك ثبتتها السلطات من القاع إلى السطح. 


صديق إنجليزي يخبرني بأن الأمر يذكره ببحيرة زارها في برلين، زمن الستار الحديدي، كانت الأسلاك الشائكة تقسم البحيرة من المنتصف، مع جنديين مسلحين في كل جهة. الأمر يبدو أقرب إلى فيلم تسجيلي عن غيتو "وارسو". أصدقاء لندنيون بدأوا تخزين الاحتياجات الأساسية، السلطات الصحية نصحت بأن يكون الجميع مستعداً لإجراءات العزل الذاتي، الجدّات اللواتي حضرن الحرب الثانية، يعرفن أكثر، معلبات اللوبياء والبطاطس المهروسة والحليب المجفف، أولويات. أستراليا البعيدة يجتاحها هوس تخزين ورق التواليت.

قوات الشرطة الإيطالية تفرض نقاط تفتيش على الطرق السريعة ومحطات السكك الحديدية، المطارات في مدن الشمال معطلة، ربع السكان في عزلة كاملة عن العالم وبقية البلد، عقوبة مخالفة قرارات العزل الصحي على المناطق المصابة بالمرض تصل إلى السجن ستة أشهر، موجة من الهروب بدأت بالفعل، عشرات الآلاف نزحوا إلى الجنوب. مدرجات ملاعب كرة القدم فارغة، المباريات تقام بلا جمهور، هي المدرجات نفسها حيث لطالما هتف مشجعو أندية مدن الشمال ضد فريق نابولي الجنوبي: "اذهبوا لتغتسلوا، أيها المصابون بالكوليرا"، كمعايرة تاريخية لمدن الموانئ، بوابة الأوبئة في الماضي. التاريخ يعيد نفسه، مقلوباً. الشمال هذه المرة مركز المرض. في الأمر عدالة شِعرية من نوع خاص. تحمل الأوبئة عموماً حساً شِعرياً ما، طاغياً وقدرياً. في سن مبكرة، بدأت محبتي للشعر حين قرأت بالصدفة قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة. ولم يكن هناك بالطبع ما هو أكثر مناسبة من تلك الأبيات لتغيير مجرى الشِّعر العربي، الوباء حطم قواعد العروض المقدسة إلى الأبد.

لا تتحدى الأوبئة، القواعد، دائماً، بل تعيد ترسيخها أحياناً كثيرة، القيود والتنميطات والكراهية والتمييز والمخاوف، جميعها تصعد إلى السطح، لكن بأسماء جديدة وحجج أكثر أو أقل إقناعاً. دول خليجية تصدر لوائح دول بعينها ممنوع على مواطنيها الدخول، تتغير اللوائح من يوم لآخر، وكذا نوعية القيود المفروضة. لا منطق واضحاً خلف معظم تلك الإجراءات، سوى عقاب العمالة المهاجرة من الدول الأفقر، الأكثر فقراً أكثر مدعاة للشك بالطبع، هدف سهل ودائم للعقوبة والإذلال. السعودية تعزل "المنطقة الشرقية"، العائدون من المزارات الشيعية المقدسة خطر، وإيران ذات الإصابات العالية توقفت عن ختم جوازات زوارها. لا يمكن تتبع المرض، فأصبح الشيعة كلهم هدفاً إذاً.

الأمر يشبه فيلماً حربياً رديئاً. بوريس جونسون يترأس لجنة الأمن القومي، "كوبرا"، ويتلبس روح تشرشل، وهو يلقى خطاباً عن كورونا يحاكي "سنحاربهم على الشواطئ". خليط من أوهام البطولة والعزلة، والجرائد البريطانية تكتب عن أزمة ثلاثة ملايين طفل بريطاني يعتمدون بشكل أساسي أو كامل على وجبات المدارس المجانية، فماذا سيحدث لغيتو الأطفال الجوعى إن توقفت الدراسة؟ 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها