الثلاثاء 2019/04/09

آخر تحديث: 08:28 (بيروت)

السودان: كنداكات وكيزان

الثلاثاء 2019/04/09
السودان: كنداكات وكيزان
من التظاهرات أمام مقر الجيش في الخرطوم (غيتي)
increase حجم الخط decrease
تعلمنا، بالطريقة الصعبة، ألا ينتابنا الحماس لمشهد الجماهير، وأن نتحلى بالقليل من الحرص حين نسمع هتافات "إسقاط النظام"، أو وحدة الجيش والشعب، أو حتى وحدة الشعب نفسه. نعرف يقيناً، اليوم، أن الشعارات لا تؤسس اليوتوبيا، وأن لحظات النشوة الثورية لا تطول، وأن سقوط رأس النظام لا يعني سقوط النظام، وأيضاً أن سقوط النظام لا يعني بالضرورة غداً أفضل. وحين انطلقت احتجاجات السودان، في ديسمبر من العام الماضي، لم يكن لدى معظمنا سوى الوقار المصطنع المتمسك بالصمت، أو بعض من حكمة بأثر رجعي، فاضت بها نصائح للأخوة في السودان: فشعار "يسقط بس" ليس كافياً، والحراك يسقط في أخطاء الربيع العربي نفسها، وهكذا.

وبإعلان الرئيس السوداني حالة الطوارئ، في فبراير الماضي، وفيما بدا أن الاحتجاجات فقدت زخمها، كانت العيون قد تحولت بالفعل إلى الجزائر، وإلى لعبة التباديل والتوافيق داخل دوائر السلطة هناك. لكن احتجاجات السودان ظلت تخرج في السودان، أسبوعاً بعد أسبوع في دأب، واستمرت لجان الأحياء في تنظيم نفسها رويداً رويداً، في ظل تجاهل من وسائل الإعلام، أو اهتمام من القليل منها ظل في حده الأدنى.

لكن، وبعد موكب 6 إبريل، وهو الأكبر منذ اندلاع الاحتجاجات، وبعد يومين من "اعتصام القيادة" أمام وزارة الدفاع، بدأت وكالات الأنباء تنقل أخباراً مقتضبة عن تدخل جنود من الجيش لحماية المتظاهرين من قوات الأمن التي كانت تحاول تفريقهم. وكانت المقاطع المسجلة التي تم تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي من هناك، محفزة على بعض من الأمل، رغم كل شيء. فمشهد آلاف الشاشات المضيئة للهواتف النقالة التي أضاء بها المتظاهرون ليل مدينة الخرطوم بعدما قُطعت عنها الكهرباء، وفيديو جماعة من المعتصمين وهم ينشدون "جباهم عالية" بأصوات في غاية العذوبة وبصحبة الكمان، وآلاف "الكنداكات"(*) - أي نساء السودان وبناته وهن يستعدن الفضاء العام بغنائهن وهتافاتهن في وجه نظام كان قد استعذب جَلد آلاف منهن كل عام.. كل هذا جعل الأمر مبهجاً، كاحتفالية أكثر منه احتجاجاً.

إلا أن مَشاهد المسيرات التي حملت شعار "يا جيشنا قرار، أما الكيزان(**) أما الأحرار"، مع المقاطع المسجلة لإطلاق قوات التدخل السريع، النار على المتظاهرين، وتدخل قوات الجيش بتبادل إطلاق النار معها، كانت سبباً قوياً للشعور بالقلق، والتجهز لخيبة الأمل، القليل جداً من الأمل الذي ما زلنا نحتفظ به. 

نرى المتظاهرين وهم يحملون جنود الجيش على الأعناق ابتهاجاً، وجندياً تنهمر دموعه تأثراً وهو محاط بالمتظاهرين، ويطلق بعض الجنود أسلحتهم الأوتوماتيكية في الهواء وسط الاعتصام بصورة احتفالية، وتطاردنا خشية أن يتحول الحراك الذي قاده تجمع المهنيين السودانيين، وشكلت النساء ثلثي عدد المشاركين في مسيراته الشوارع، إلى معركة بالأسلحة النارية بين قوات الأمن وبعض قوات الجيش، أو بين صفوف قوات الجيش نفسها، أو في أفضل الأحوال أن يقفز جنرال آخر على الحراك.

وبين إلتماسنا الخجول للأمل والخوف المبرر منه، تبدو هناك قناعة واحدة في كل، وهي أن مصيرنا معلق، بمعركة الكنداكات مع الكيزان، معلّق بما يحدث في السودان اليوم، كما هو معلق بما يحدث في الجزائر، وفي غزة، وفي كل مكان آخر في منطقتنا تعود فيه الشعوب للانتفاض على أنظمتها المتداعية. فالمصير المشترك، تلك الدعاية العروبية التي ظهر وكأن الجميع قد نبذها للأبد، لا تبدو أوضح على أرض الواقع من أيامنا هذه، وشعارات التغيير التي هُزمت ونُكّل بها أشد تنكيل، وظننا أنها لن تعود قبل وقت طويل، ها هي هنا والآن. وربما وبسبب هذا كله، فإن خوفنا على حراك السودان مازال أكبر من أملنا فيه، وقلقنا على أصحابه أثقل من أن يدعنا نفرح كفاية معهم وبهم.

(*) "كنداكة": كلمة نوبية قديمة تعني "ملكة"، وقد درجت كلقب للسودانيات المتظاهرات.
(**) "الكيزان": تسمية سودانية شعبية لمؤيدي نظام البشير، وتشابه كلمتَي "شبيحة" في سوريا و"بلطجية" في مصر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها