السبت 2019/02/23

آخر تحديث: 07:53 (بيروت)

أنا الذي قتل هشام بركات

السبت 2019/02/23
أنا الذي قتل هشام بركات
increase حجم الخط decrease
"إدّيني صاعق كهربا وقعّدني مع أي واحد في القاعة وهخلّيه يقولك أنا اللي قتلت السادات.. معانا كهربا تقضي مصر عشرين سنة". هذه العبارة التي خاطب بها محمود الأحمدي القاضي، في قضية مقتل النائب العام هشام بركات، يجدر بها أن تبقى في الأذهان مطولاً. أي واحد منا، لو شاءت المصادفة أن يولد مصرياً وصاحب موقف، كان عرضة للاتهام في قضية من هذا النوع.

حجم المهزلة الدامية يقول ذلك، قبل نطق الأحمدي به، إذ يكفي القول أن عدد المتهمين في قضية تفجير سيارة النائب العام بلغ 67 متهماً، ثم في الثاني والعشرين من تموز 2017 حكمت محكمة مصرية بإعدام 28 متهماً، ومعاقبة 38 آخرين بالسجن لمدد تتراوح بين 10 و25 سنة، قبل أن يستقر الأمر على إعدام الشبان التسعة. أقل ما يُقال في هذه الأرقام أنه يجب تخليدها في سجل غينس للأرقام القياسية، فلم يحدث في التاريخ أن شارك عدد مماثل في عملية إرهابية تقتضي الحرص والسرية، ولا تتطلب بطبيعتها هذا العدد من المشاركين تخطيطاً أو تنفيذاً.

خلال مسار القضية، كانت السلطات الأمنية المصرية قد قدّمت العديد من الروايات عن حادثة الاغتيال، وحتى عن مقتل الضالعين فيها ضمن مداهماتها! مهلاً، يبدو تعبير السلطات الأمنية المصرية مضللاً، فالأحرى أن السلطة المصرية برمتها أصبحت سلطة مخابراتية. مثلاً، لقد أصبح من الماضي ذلك الهامش الضيق من الحريات الذي كنا كسوريين نغبط المصريين عليه، وكذلك الهامش الضيق من استقلالية القضاء أو الهامش الممنوح للإعلام. في دولة السيسي لا وجود سوى لـ"سيسيين" صغار، مهمتهم الأسهل هي التصفيق للغو الذي يتفوه به كبيرهم. كان ثمة فكرة شائعة لدى قسم من السوريين المهتمين بالسياسة، مفادها أن مصر تتقدم على سوريا بعشر سنوات، الآن تبدو الأسدية هي الأفق الذي تسعى إليه مصر السيسي.

في العمليات التي نفّذها داعش في أوروبا مؤخراً سنجد في الإعلام الغربي تحليلاً لما يُسمى ظاهرة "الذئاب المنفردة"، وسنجد معلومات عن منفذ الهجوم لا يندر بينها ما يشير إلى بنية نفسية ووضع اجتماعي أهّلا ذلك الانتحاري للوقوع في فخ داعش. طبعاً لا يندر أن نعثر في أوساط اليمين المتطرف على أولئك الذين يتجاهلون كافة العوامل، ليصوبوا على الإسلام وعلى المسلمين بوصفهم دواعش جميعاً. في محاكمة المتهمين باغتيال هشام بركات سنجد القاضي يرد على أحد المتهمين، عندما يتحدث الأخير عن وضعه النفسي، بأن عفريتاً قد ركبه. هذا القاضي، مع الفهم العامّي للموضوع النفسي والفهم اللاأخلاقي حتى للتعامل مع من يُنظر إليهم اجتماعياً كحاملي عفاريت، هو الذي نطق بحكم الإعدام.

المقارنة ذاتها تصحّ مع أولئك "المتنورين" الصامتين على وحشية الإعدام، فهم يقدّمون أنفسهم بوصفهم الأكثر حداثة، والأقرب إلى المعايير الغربية. والحق أننا إذا حكّمنا المعايير الغربية ذاتها فإن أول وصف يمكن أن ينالوه هو العنصرية، جراء تجاهلهم لحقوق الآخرين في التعبير وصولاً إلى حقهم في الحياة. يجوز لهذا النوع من المتنورين أن يقدّم نفسه كامتداد لأكثر نزعات اليمين الأوروبي عنصرية ووضاعة، لكنه سيُقابل بازدراء حتى من قبل اليسار الغربي الذي لم نتوقف عن انتقاد مواقفه من الثورات العربية. ولعل أردأ مفارقة هي التي تجلت بوجود مواقف متضامنة مع الناشر المصري خالد لطفي على خلفية الحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وهو يستحق التضامن بالتأكيد، بينما لم يتضامن أصحابها مع ضحايا الإعدام، ولا يُستبعد أن يكون التضامن مع لطفي مستبطناً ما هو مسموح به في دولة السيسي. على أية حال، إذا تجاوزنا الاعتبار الأخلاقي، وإذا اعتبرنا موقف هذا الصنف يندرج في إطار النكاية السياسية الرخيصة، سنكون إزاء بديهية بسيطة أثبتتها العقود الماضية من حكم العسكر، وهي أن غياب العدالة والديموقراطية ينمّي التطرف ومنطق الثأر.

الذين حكموا على الشبان المصريين وأنصارهم يعرفون ما سبق، وهم يعوّلون على واحد من احتمالين؛ إما تأديب الشعب بحيث لا يحلم بتكرار ثورته على مبارك، أو تغذية التطرف بحيث يُستغل كبديل محتمل لهم، كبديل يتم التخويف به داخلياً وخارجياً. إننا نخطئ عندما لا نؤكد على بنية هذه الأنظمة كمصنع للوحش، سواء أكان الوحش الخاضع لإمرتها، أو ذاك الذي تحرّضه في نفوس خصومها. لقد قيل من قبل، لمناسبة ثورات الربيع العربي، أن النظام القديم نجح إلى حد كبير في استيلاد معارضة تحمل العديد من شوائبه. مع التوحش الذي يرافق عودة النظام القديم، أغلب الظن أن دورة العنف الماضية ستكون بمثابة بروفة متواضعة على حمام الدم المقبل.

لا ننسى في هذا السياق أن الجيل الجديد من النظام القديم هو جيل خارجي تابع بالمطلق، السيسي مثلاً لا يخفي تبعيته لدول في الخليج تملك أموالاً "زيّ الرز"، مثلما لا تخفى تبعية بشار المطلقة للإيراني والروسي، أو تبعية المتصارعين في ليبيا واليمن. التبعية لمصدر القوة الخارجي كشف وسيكشف عن آليات توحش جديدة، لأن هذا النمط من التابعين لن يقيم أدنى وزن لداخل منقطع عنه، ولا يستمد منه أدنى شرعية لبقائه. ربما علينا الاستعانة بأصحاب نظريات المؤامرة ليشرحوا لنا هذا الانحدار المطلق في أحوال بلدان مثل مصر والعراق وسوريا، بلدان كانت في ما مضى تُعدّ مركز ثقل في المنطقة على كافة المستويات، ولا يُستثنى منها لبنان الذي أصبح رهينة حزب الولي الفقيه.

الدمار الذي تسبب النظام القديم بطبعته الأولى، وما يُتوقع من طبعته المستجدة، ينسجم تماماً مع إعدام تسعة شبان مصريين، كدفعة جديدة على الحساب ليس إلا، ولو بدت لا تُقارن بعشرات آلاف المعتقلين السوريين الذين أُعدموا بلا محاكمة. ولا يمكن أن نعزو إلى المصادفة أن البلدان المذكورة راحت تخلو من جيل الشباب، حيث تتوزع نسبة كبيرة منه بين معتقل ومنفي أو مهاجر وراغب في الهجرة، من دون أن ننسى في المقلب الآخر الشبان الذي تحولوا إلى وحوش في خدمة الوحش الكبير. إعدام المستقبل القريب يتم الآن، بما للتعبير من معنى فيزيائي لا معنوي فحسب، أما المستقبل الأبعد فقد لا يكون أفضل مع طفل نبت أول أسنانه وأبوه وراء القضبان قبل إعدامه، وقد يلاحقه مشهد أمه وهي تشير لأبيه بذلك بقية حياته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها