الثلاثاء 2019/11/19

آخر تحديث: 07:26 (بيروت)

عثمانيون ومماليك

الثلاثاء 2019/11/19
عثمانيون ومماليك
خالد النبوي في دور "طومان باي"، لحظة وصوله إلى مصر بعد مقتل السلطان محمد الفاتح
increase حجم الخط decrease

خلال العقود القليلة الماضية، ساهمت الجهود المبذولة في مجال الدراسات العثمانية في إعادة قراءة تاريخ المنطقة وحاضرها، ومراجعة القناعات الراسخة عنها. فالإمبراطورية المعروفة بـ"رجل أوروبا المريض" كانت تجسيداً لكل مثالب الشرق وفساده في المخيلة الغربية، ومن البلقان إلي المشرق العربي ولدت أفكار الوطنية والدولة الأمة من رحم العداء للفكرة العثمانية وعلى أنقاضها. في مصر، وفي وقت مبكر، أنتجت دولة الأسرة العلوية نسختها من التاريخ، بصيغة لم تحتفِ بالعثمانيين بكل تأكيد، أما طورانية أتاتورك المؤسسة لتركيا الحديثة فقد قامت هي الأخرى على تشويه أعنف للإرث العثماني. لكننا اليوم، وبفضل دراسات أكثر نقدية، نستطيع أن نجد روايات للماضي أكثر تصالحاً مع الزمن العثماني، تنكشف من تحت طبقات التاريخ المؤدلج المتراكمة والكثيفة. بل وفي أحيان كثيرة، يمكن لنا أن نلمح حساً مفعماً بالنوستاليجيا تجاه ذلك الزمن في الكثير من تلك الدراسات، وبالأخص في تلك التي تعتمد منهجاً ما بعد استعماري.

وإن ظل تأثير ذلك الجهد الأكاديمي محدوداً وقاصراً على دوائر نخبوية ضيقة، إلا أن التبدل في الصورة العثمانية، لدى القاعدة الأوسع من الجمهور العربي، يبدو راجعاً إلى تغيرات السياسة الداخلية التركية نفسها، وواقع التحالفات الإقليمية، والأهم الشعبية الكاسحة للدراما التركية بين الناطقين بالعربية. فعميلة إعادة تأهيل الماضي العثماني، التي انخرط فيها حزب العدالة والتنمية في تركيا، بحماس شديد، لحق بها الصعود السياسي للأحزاب المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين في دول الربيع العربي، معززاً بجماهيرية الدراما التركية بين الناطقين بالعربية، وبالأخص المسلسلات التاريخية. وبالتأكيد فإن مسلسل "قيامة أرطغرل" هو النموذج الأشهر لتلك المعادلة، التي يشتبك فيها الحاضر السياسي مع الدراما، لصالح إعادة كتابة التاريخ وتعميم نسخة معينة منه جماهيرياً. ويمثل مسلسل "كوت العمارة"، عن المعارك العثمانية البريطانية في العراق خلال الحرب العالمية الأولى، نموذجاً من نوع آخر، حيث يظهر العثمانيون والعرب متحدين ضد الغرب، وإن ظل العثماني هو البطل، أما العروبة فاحتفظت بدور أنثوي، ممثلة في حبيبة البطل ابنة القبائل العراقية.

وفي هذا السياق، أثارت تغريدة في "تويتر"، للكاتب والمنتج التلفزيوني الإماراتي، ياسر حارب، عن مسلسله الجديد "ممالك النار"، الكثير من الجدل. ففي إطار إعلانه عن عرض المسلسل المنتج إماراتياً في قناة "إم بي سي"، يشير إلى موضوعه بالقول: "السلطان المملوكي طومان باي في القاهرة، في مواجهة المحتل العثماني سليم الأول". وكانت تلك الإشارة كافية حتى يعتبر كثر إن المسلسل ذا الميزانية الضخمة وفريق الإخراج متعدد الجنسيات، يهدف إلى منافسة الدراما التاريخية التركية، ليس فقط من أجل اجتذاب جمهورها الناطق بالعربية، بل أيضاً لطرح رواية تاريخية مناقضة لنسختها. فالعثمانيون حماة الإسلام في الدراما التركية، يتحولون هنا إلى قوة احتلال.

تبدو تلك الافتراضات ومبرراتها مفهومة، على خلفية العلاقات المتوترة بين تركيا والتحالف السعودي-الإماراتي، وبالأخذ في الاعتبار حملة المقاطعة، التي قادتها القنوات الخليجية ضد المسلسلات التركية. لكن الأمر ليس بالضرورة بهذه البساطة. فالحقبة المملوكية الطويلة، والتي كانت القاهرة فيها مركزاً لإمبراطورية مترامية الأطراف، وصل نفوذها من مياه الهند إلى الأطلسي، تم تشويهها هي أيضاً، عن عمد وبشكل متواصل. فمن العثمانيين، مروراً بالحملة الفرنسية، وصولاً إلى محمد علي، سعى الجميع إلى رسم صورة بائسة ومفزعة للحقب المملوكية التي، مع ذلك، شهدت انتعاشاً عمرانياً وفنياً استثنائياً تظل آثاره هي الأوضح في القاهرة إلى اليوم.

ويسعي تيار تاريخي أكثر معاصرة، إلى فحص الماضي المملوكي بشكل أكثر إنصافاً، بعيداً من كل تلك التنميطات الراسخة. وفي روايات معاصري الأحداث من المصريين والشهود على المعارك الحاسمة بين سليم الأول وسلاطين المماليك، مثل كتاب "بدائع الزهور من وقائع الدهور" لابن أياس، وكتاب "وآخرة المماليك" لابن زمبل الرمال، يبدو واضحاً تعاطفهم مع المماليك ضد العثمانيين، ويتم التقاط ذلك التعاطف الذي تركز حول "طومان باي" ونهايته المأساوية، لتعاد كتابته مرة بعد أخرى. ولعل رواية "على باب زويلة" (1950) لمحمد سعيد العريان، لم تكن أولى تلك المحاولات، لكنها أشهر تلك الكلاسيكيات التي أسبغت قدراً لا بأس به من البطولية التراجيدية على السلطان الشركسي. لذا، لا تبدو تغريدة ياسر حارب مجرد مناكفة سياسية، ولا يمكن وصمها بـ"تزييف التاريخ" ببساطة كما ذهب البعض.

سيكون من المبكر بالطبع الحكم على "ممالك النار"، قبل مشاهدته كاملاً، وإن كان لا يمكننا تجاهل السياق السياسي لظروف الإنتاج. لكن، وسط هذا كله، يبدو أن الدراما التليفزيونية اليوم هي الساحة الأكثر تأثيراً، وميدان الصراع الأكثر تكثيفاً لإعادة كتابة التاريخ، أو على الأقل لترويج نسخ بعينها منه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها