السبت 2018/09/22

آخر تحديث: 16:29 (بيروت)

السويد: الغرب ليس نهاية التاريخ

السبت 2018/09/22
السويد: الغرب ليس نهاية التاريخ
عائلة مسلمة تصوّت في انتخابات السويد 2018 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
في أنفاس قريبة من بعضها البعض، في الزمن والثقافة والتجربة، صعد تيار الشعبوية في أميركا وفرنسا وألمانيا والنمسا والمجر وبولندا وغيرها، قبل أن يصل إلى تنفسه العميق في الانتخابات البرلمانية في السويد.

وفي تلك البلاد المنخرطة في النظام الليبرالي العالمي، بل هي مركزه وفي القلب من صناعته، يعني صعود الشعبوية أن الديموقراطية والحداثة [وما بعدها]، قيد اختبار ضخم. ولا أقل من القول بأن ذلك يعني أن الغرب فشل في أن يكون "نهاية التاريخ"، واستطراداً، هناك تحدٍ ضخم مطروحاً على ذلك الغرب تحديداً، بمعنى ان ما تؤول إليه نتائج تفاعل الحداثة والديموقراطية مع الشعبوية المعاصرة، سيرسم مساراً عميقاً في الوعي الإنساني برمته.

ما الذي يبرر تلك الكلمات الصلبة؟ يمكن البداية من "نهاية التاريخ". كان مؤسس فلسفة التاريخ، الفيلسوف الألماني ج.فيلهالم هيغل (1483- 15469) أول من استعمل مصطلح "نهاية التاريخ" بالمعنى الثقافي الذي يحمله حاضراً. وفي مؤلفه "فينومينولوجيا الروح"، أورد هيغل أن الوعي الإنساني يتطوّر كظاهرة تاريخيّة، وهو ينتقل [بالأحرى، يتجسّد أو يتمثّل، وفق تعبيراته] عبر محطات بارزة في الحضارة الإنسانيّة. وإذ رصد هيغل أن "عصر النهضة" مثّل بداية انتقال ذلك الوعي الإنساني من الشرق إلى الغرب، تعامل بفرح فكري كبير مع الاصلاح الديني البروتستانتي الذي أطلقه القس مارتن لوثر في 1517. ووصل هيغل إلى اعتبار أن البروتستانتية هي شمس "عصر الأنوار" كله. ويرجع ذلك لأسباب كثيرة، أبرزها أنها وضعت حدّاً فاصلاً بين عقل الإنسان و"أعمدة السماء": السلطة الدينية التي تدعي دوماً تمثيل السماء على الأرض.

وبالنسبة إلى هيغل، كرّست البروتستانتية أن الفرد لا يحتاج من الدين سوى التدين، وينال العقل حرية أن يكون هو المدبر لحياة البشر ومساراتها. وفي العمق نفسه، يأتي عمل المفكر الألماني كارل بوبر (1902- 1994) عن البروتستانتية التي مهدت للرأسمالية وتناغمت معها [وقد رافقها لاحقاً الليبرالية والديموقراطية، وصولاً إلى كونهما أساس النظام العالمي حاضراً]؛ استكمالاً لرؤية هيغل عن البروتستانتيّة كـ"نهاية للتاريخ"، في مسار تحقيق حرية الإنسان.

بداية الاهتزاز: الحداثة المتوحشة
في ذلك المعنى، كانت الحداثة ومشروع العقلانية لمسار الفصل بين العقل الإنساني من جهة، والبعد الديني والميثولوجي من الجهة الثانية. وصار الفكر يتمحور حول الإنسان وحريته وعقله وتفكيره ووجوده، وهي الغايات التي تناولتها الفلسفة منذ بداية مشروع العقلانية، ربما مع ديكارت.

إذاً، يعني القول بأن حداثة الغرب هي "نهاية التاريخ"، أن الحداثة [وفيها مفاهيم العقلانية والحداثة والحرية والليبرالية والديموقراطية] هي المحطة الأخيرة للوعي الإنساني كله.

للحظة ما، بدا الأمر "ممكناً" ولو نسبيّاً، مع كل الاعتراضات الممكنة، لعل أبرزها ما أثارته الحداثة المتوحشة [النازية والفاشية، وربما الشيوعية] من اهتزازات في ذلك النموذج الحضاري. وكذلك اعتراض ما بعد الحداثة على تحوّل الحداثة "ديناً" يجب التحرر منه، مروراً بالقول بحداثات متنوّعة تتوافق مع ثقافات الشعوب ولا تفرض "نموذجها" عليها.

ومثّلت هزيمة الشيوعية، بعد اندحار النازية والفاشية، لحظة مغوية. وأغرت مفكراً أميركياً، هو فرانسيس فوكوياما، باستعادة مقولة هيغل عن "نهاية التاريخ" [في كتاب شهير حمل عنوان "نهاية التاريخ والرجل الأخير"، وظهر في 1992] للقول بأن الغرب أثبت فعليّاً أنه كذلك.

((نفتح هنا قوسين للقول استباقاً بأنه مع صعود الشعبوية، بل قبل محطتها الأخيرة في السويد، أضطر فوكوياما إلى الاقرار علناً بأن لحظة إعلان "نهاية التاريخ" لم تأت بعد، في مقالات تداولاتها مجلات غربية عديدة)).

وفي العولمة، بدت الحداثة وما بعدها، وثقافتها، والنظام الديموقراطي، كمارد أفلت من قمقم التاريخ، لينتشر عالمياً، وعبّرت عنه العولمة بطرق متشابكة. لكن، كانت هناك أشياء تتراكم ببطء، لتصنع هامشاً معاكساً. يحضر إلى الذهن صعود الإسلاموية المعاصرة وعلاقاتها المضطربة مع العولمة. وفي قلب أوروبا، انفلت تاريخ ساد الظن طويلاً بأنه كان مكتوماً. ظل الشرق الأوسط مضطرباً. صعدت الصين في ظل حزب شمولي صريح. لم ينجح النظام العالمي في أفريقيا، بل آلت تجربته فيها إلى دول فاشلة تُصدر سيول مهاجرين. لم تكن افغانستان سوى اختباراً مستديماً. عادت الهويات والأديان لتتصدر النقاشات الثقافية عالمياً... والقائمة طويلة.

"حليقو الرؤوس": التمهيد للشعبوية
الأرجح أن الاهتزاز الأهم حدث في قلب أوروبا. انفلتت صراعات الهويات في البوسنة والهرسك، قبل ان تصبح نغماً سارياً في معظم أوروبا، بل مهدت للشعبوية في البلقان. وبخفوت صادم، صعدت تيارات متصلة بالشعبوية "القديمة" كحركة "حليقي الرؤوس" الألمان الذين وجدوا نظراء لهم على امتداد تلك القارة. صعد النقاش في المؤسسة السياسية الأوروبية عن فشل تجربة التعدد الثقافي. عادت الهويّات لتكون محكاً حاسماً في الثقافة الغربية اليومية. تحدث نيكولا ساركوزي عن "الأجداد من نسل الغال"... والقائمة طويلة. أين تلك النقاشات من ثقافة النهضة والتنوير والحداثة وما بعد الحداثة؟ ألا تعبر عن مآزق في تحقيق آفاقها بكونها فكراً انسانياً يحمل وعداً [بل يتصدى لتنفيذه] بحرية الإنسان على الأرض؟ كيف يمكن قراءة صراخ المفكر الإيطالي أنطونيو أغامبين بأن "الديموقراطية تسقط عندما تتحوّل إلى حصن تختبئ خلفه شعوب تقول أنها ديموقراطية، شرط ألا تتعامل مع المختلف عنها"؟ ظهرت تلك الكلمات في مقدمة وضعها لكتاب "الديموقراطية: في أي دولة تكون؟" (2012)، وشاركه في الكتاب والقلق على الديموقراطية، مفكرون مثل الآن باديو ودانيال بن سعيد وسيلفيو تزيزيك، وغيرهم.

الأرجح أنه لا شيء أبرز في تلك القائمة الضخمة، من المهاجرين والإرهاب التكفيري الذي فرض صورته على الإسلاموية المعاصرة في أوروبا. وليس النقاش في عناوين من قبيل: النقاب والإسلاموفوبيا و"البوركيني" و"الإسلام الفرنسي وليس الإسلام في فرنسا" وغيرها، سوى تمهيد للمشهدية المتفجرة حيال المهاجرين.

المفارقة المذهلة تحملها الكلمات أيضاً: يسمي حزب الشعبوية في السويد نفسه بـ"ديموقراطيي السويد"، وهي تسمية تشدد على الهوية، وترفع الديموقراطية سدّاً عازلاً عن الآخر، مع التشديد على كونها فكراً غربيّاً، على عكس منطق الحداثة والديموقراطية نفسها. ويزيد في حدّة المفارقة التي حملها صعود الشعبوية في السويد، ان ذلك البلد تقطنه غالبية بروتستانتية، بل اشتهر بكونه معقلاً لذلك الإصلاح الذي يفترض أنه كثّف روح التنوير والنهضة!

عندما كانت الحداثة تأمل بأنها نموذج للإنسان عالمياً، جاء "الربيع العربي". في لحظة ما، ساد أمل في مصالحة بين الحداثة والديموقراطية من جهة، وبين إسلام تسري فيه روح الإصلاح من جهة ثانية. لم تكن سيول المهاجرين سوى تعبير عن سقوط تلك اللحظة. ولأن الشيء بالشيء يذكر، ولد حزب "العدالة والتنمية" في تركيا في 14 آب/أغسطس2001، مع وعد بالمصالحة بين "الاسلام المعتدل" والحداثة والديموقراطية. وخُطِفَ ذلك الوعد على يد الإرهاب الإسلاموي المعاصر في 11 أيلول/2001. هل تلك اللحظة واختطافها بعيدان من صعود الشعبوية في أميركا وأوروبا، وصولاً إلى السويد؟ سؤال آخر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها