الثلاثاء 2018/09/11

آخر تحديث: 11:36 (بيروت)

الضابط والطفلة: خيال اليائسين

الثلاثاء 2018/09/11
الضابط والطفلة: خيال اليائسين
increase حجم الخط decrease
ضابط برتبة نقيب، يرتدي زي الصاعقة المصرية، يمسك بيد سلاحه الآلي، المرتكز على الأرض وفوهته إلى أسفل، ويمسك بيده الأخرى يد طفلة تبدو عليها علامات الخوف. الطفلة المستندة بظهرها إلى الحائط، تنظر بعيداً عن الضابط، متحاشية النظر في وجهه، لكنها تبدو مطمئنة لليد الكبيرة، والساعد المفتول الممدود لها. تبدو الصورة طبيعية إلى أقصى حد، وصادقة، بقدر ما هي محملة بشحنة درامية كثيفة، وكأنها عمل فني من عصر النهضة. فالتضاد بين الهشاشة والفحولة الحانية، والطمأنينة والجزع، السلاح والرقة في التفاتة جسد الضابط، لا يترك مساحة لمقاومة إغواء جماليات الصورة، والتورط في مشهديتها.

تصلح الصورة بالطبع، للتوظيف في حملة للعلاقات العامة، لوزارة الداخلية، لتحقق نجاحاً أكبر من مبادرات توزيع رجالها للورود على المواطنين. فمشهد "الشعب الطفل"، الذي يحمله الجندي، أو "مصر المرأة" التي يحميها الضابط، خيالٌ مُعادٌ وركيك، كان ينقصه بعض من المصداقية، لتخفف مهانته الكاريكاتورية.

خلال الأيام القليلة الماضية، تم تداول الصورة في نطاق واسع، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية القبطية، مذيلة بتعليقات تنسبها إلى محافظة المنيا. فالطفلة الصغيرة، قيل إنها واحدة من ضحايا الاعتداءات الطائفية ضد الأقباط، والتي شهدتها قريتا "عزبة سلطان"، و"دمشاو هاشم" الأسبوع الماضي. لكن التعليقات حملت أكثر من تأويل واحد للمشهد. ففي مقابل الكراهية الطائفية والعنف الأهلي، يقف رجال القوات الخاصة، وهم ممثلو الدولة، بوصفهم صمام الأمان وضمانته. فالصورة شاهد على أنه "رغم العتمة لسه في نور"، بل وأيضا "ترد على هيومان رايتس واتش"، في إشارة للانتقادات الموجهة للشرطة المصرية.

إلا أن مشهد الضابط والطفلة، لم يطمئن الجميع، فالصورة تم تداولها أيضا بوصفها دلالة على التردي المأساوي الذي وصلت إليه الأمور. فأطفال المنيا الأقباط يحتاجون لقوات الصاعقة، ورجالها مفتولي العضلات وأسلحتهم الأوتوماتيكية لحمايتهم من جيرانهم، فأي رعب أكثر من هذا! وكيف لهؤلاء الأطفال وأسرهم أن يعيشوا بين أبناء قريتهم بعد اليوم؟

ولا تبدو هذه الأسئلة غائبة عن الكنيسة. فالقس بولس حليم، المتحدث الرسمي باسمها، يصرح للإعلام، تعليقاً على اعتداءات المنيا، بأن الحل الأمني ليس كافياً. لكنه سرعان ما يعود لتأكيد دعاية الدولة، بشأن "التوعية على التسامح". وفي السياق نفسه، تذهب النائبة البرلمانية، مارجريت عازر، إلى الحاجة إلى "إصلاح الخطاب الديني"، وهو الإصلاح نفسه الذي يتحدث عنه الجميع منذ السبعينات، ولا أحد يخبرنا كيف يحدث، أو لماذا لا يحدث. وتتحين النائبة الفرصة لتحدد المسؤول الأول عن الطائفية، أي الثورة: "مصر خرجت من ثورتين، رسخ خلالهما التيار المتشدد المفاهيم المغلوطة لدى العديد من المواطنين، والتي من الصعب أن تمحى بين يوم وليلة".

ثم سرعان ما ينكشف أن الصورة من الجيزة، وليست من المنيا، وأن الطفلة ليست قبطية، بل ابنة أحد المتهمين بتجارة المخدرات والسلاح، وقد داهمت القوات الخاصة بيته للقبض عليه. احتفت وسائل الإعلام بالصورة، وخاضت في "الأسرار والمفاجآت" التي تتعلق ببطلها. فالضابط حفيد آخر عمدة لمحافظة الجيزة، والذي كان أيضاً صديقاً شخصيا للكاتب الساخر محمود السعدني، ومديراً للإنتاج في فرقة "ابن البلد" المسرحية. وبالرغم من التغطية الإعلامية التي تناولت المشهد، والخبطات الصحافية المتعلقة بها، فإن هؤلاء الذين تداولوا الصورة في البداية، على أنها من المنيا، وعن خلاص أقباطها، استمروا في تداولها، كما هي، وبالتعليقات نفسها.

فاليأس من كسر الدائرة المفرغة للأحقاد والعنف الطائفي، لم يدع مجالاً للخيال، سوى في التمسك بأوهام الصورة الزائفة، وتمني النجاة في حماية القوات الخاصة. أو في أفضل الأحوال، الإيمان بخرافة "إصلاح الخطاب الديني"، أو صب اللعنات على "الثورتين".

في كل من "عزبة سلطان" و"دمشاو هاشم"، اندلعت الاعتداءات، وكالعادة للأسباب المعروفة والمكررة: مسائل تتعلق بتراخيص الكنائس، وإصرار الدولة على عدم تسيير أوضاعها، أو التلكؤ فيه، وتفصيل قوانين تمييزية لبناء دور العبادة، وتواطؤ الأمن على العنف، والالتجاء إلى الجلسات العرفية التي يفلت بموجبها المعتدون من العقوبة. تصر الدولة على حفظ تلك المسافة الرمادية بين الرسمي وغير الرسمي، الخطاب العلني والواقع، لتظل مسألة العنف الطائفي والكنائس مساحة للشد والجذب الدائم، ومحوراً للإخضاع ودعاية الخوف، وبالطبع تبقى مبرراً للاحتفاء بصور ضباط الصاعقة، وعضلاتهم المفتولة، التي تلهب خيال اليائسين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها