الثلاثاء 2018/05/08

آخر تحديث: 00:17 (بيروت)

احتجاجات تجريبية

الثلاثاء 2018/05/08
احتجاجات تجريبية
الأمهات غاضبات بسبب وقف تعليم المواد الأساسية بالإنجليزية في "المدارس التجريبية"(غيتي)
increase حجم الخط decrease
شهدت القاهرة، الأسبوع الماضي، احتجاجات شكّلت حدثاً، رغم محدوديتها، وذلك في ظل الركود الذي يميز الوضع السياسي القائم. تعامل الأمن بتسامح نسبي مع التظاهرة، فجمهرة الأمهات اللواتي خرجن للاعتراض على تصريحات وزير التربية والتعليم بخصوص منظومة التعليم الجديدة، لم تبدُ تهديداً لأحد. فالنظام المصري انتقل بالفعل من مرحلة تثبيت قدميه، إلى حالة تصريف الأمور، بحيث باتت مَشاهد الاحتجاجات على تفاصيل برامج إصلاح التعليم وغيرها من المسائل النوعية، تأكيداً على الوضع القائم وشرعيته، وخفضاً للخلاف من الكلي والعام، إلى المستوى التفصيلي، والدقيق، والفئوي، والجزئي.

لكن واحدة من المتظاهرات، والتي ظهرت لتوجه حديثها الغاضب للسيسي شخصياً، بصفته مسؤولاً ومُلاماً، تؤكد لنا ما هو معلوم: أن تغييراً يخص تلامذة المدارس "التجريبية" ليس بالضرورة تنحية للسياسي لصالح الإداري، وللإيديولوجي لصالح التقني، وللجماهيري لصالح رأي الخبراء، بل ربما هو دمج لأقطاب تلك الثنائيات، وتأكيد آخر للعلاقة بين الخاص والفئوي وبين العام.

هكذا، قوبلت تصريحات وزير التربية، بقدر كبير من النقد. فالإعلان المفاجئ والمقتضب عن تغيير شامل في منظومة التعليم ما قبل الجامعي في مصر، من دون تمهيد أو تفاصيل كافية، تسبب في قدر لا بأس به من سوء الفهم والجزع. وغير التوجس الدائم في نوايا الدولة وكفاءتها، فإن سبباً آخر لرفض مبدئي لـ"الاستراتيجية الوطنية الشاملة لتطوير التعليم"، من دون الخوض في تفاصيلها، كان مصدر التمويل. فالاتفاق الذي بموجبه سيقدم البنك الدولي 500 مليون دولار، لتمويل بنود الاستراتيجية، كان كافياً لإقلاق الكثيرين. فوصفة "الإصلاحات" التي قدمتها المؤسسات المالية الدولية، والتي التزمت بها الحكومة المصرية، بالإضافة إلى قسوتها الشديدة، بدت معنية حصراً بتنفيذ ما يراه الممولون واجباً. فيما قامت مؤسسات الدول المصرية بدور الوسيط، من دون اعتبار لرغبات المجتمع وأصحاب المصالح أنفسهم.

فوزير التعليم، الدكتور طارق شوقي، الموظف الدولي السابق في اليونيسكو، وعلى خلفية تاريخه الأكاديمي في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، بقدر ما يمثل نخبة الخبراء المعولمة، حيث تتداعى الخطوط الفاصلة بين التقني والسياسي، والوطني والدولي، والأكاديمي ومؤسسة الحكم، فهو يمثل منظومة موحدة وقياسية لـ"الحكم الرشيد" و"برامج الإصلاح"، تأتي من أعلى، وتنحصر المناقشات حولها، بوصفها شأناً فنيا، بين الخبراء الدوليين ونظرائهم المحليين.

إلا أن ما أغضب الأمهات، وأخرجهنّ للتظاهر لم يكن هذا كله، كما إن ما استدعى انتباههن من بنود مشروع إصلاح التعليم الكثيرة، لم يكن سوى تفصيلة واحدة، هو وقف تعليم المواد الأساسية بالإنجليزية في "المدارس التجريبية" خلال المرحلة الابتدائية. لا حاجة بالطبع، للإشارة إلى ما تمثله اللغة الأجنبية في نظام التعليم في مصر، بوصفها خاتم للجودة من ناحية وعلامة للتميز الطبقي من ناحية أخرى، إلا أن ما يمكن أن تخبرنا به المدارس التجريبية يتعدى نظام التعليم إلى منظومة الحكم إجمالاً وأبعادها الطبقية.

فالمدارس التجريبية، وهي مدارس حكومية تقدم تعليماً ذا جودة أفضل من التعليم العام، مقابل رسوم أعلى، تقف في نقطة ما بين التعليم الخاص والحكومي، وفي تراتبية للخدمات الحكومية التي تتمايز كفاءتها بحسب قدرات متلقيها المالية. وفيما تشهد جودة الخدمة التعليمية المقدمة في المدارس "التجريبية" و"القومية" و"النموذجية" و"المتفوقين"، بقدرة المؤسسة الحكومية في مصر على تقديم خدمات في غاية الكفاءة، إن توافرت الإرادة السياسية والحد الأدنى من الموارد، فإنها أيضاً جسدت لوقت طويل وعداً قائماً من الدولة لقطاعات من الطبقة الوسطى، خصوصاً من البيروقراطية المدنية، بمحاباتها بخدمات حكومية مميزة. فشرائح الطبقة المتوسطة، من موظفي الحكومة والمهنيين، التي لا يتسنىّ لها تسجيل أولادها في المدارس الخاصة والأجنبية، كان أمامها دائماً فرصة أو على الأقل طموح، للاستفادة من نظام التعليم الحكومي المميز، والذي تظل كلفته أقل بكثير من القطاع الخاص.

ما دفع أمهات "التجريبية" للانتفاض، هو ما بدا لهم إعلاناً من الدولة لتوحيد نظامها التعليمي المزدوج، بسحب ختم التمايز الذي تمثله اللغة الأجنبية من المدارس التجريبية، أي التراجع عن الرشوة الطبقية التي لطالما قدمتها الدولة في الماضي. والأمر لا يقتصر على التعليم. فالتعددية في منظومة الخدمات الحكومية، والتفاوت الشاسع في جودتها وكفاءتها، بحسب موقع متلقيها الطبقي وبُعده أو قربه من السلطة، كان واحداً من محاور ترسيخ السلطوية في مصر. فالمساحة الواسعة والغامضة بين ما تقدمه الدولة للغالبية، وما يمكن أن تقدمه للبعض أو تَعدُهُم به، سواء بشكل مقنن أو أساليب ملتوية، هي هامش لتلاعب النظام بتوزيع الموارد، أو فتاتها، بأشكال غير عادلة، بغية ضمان ولاء شرائح بعينها، على حساب أخرى.

ما أقلق المتظاهرات بالفعل، وهن عبَّرنَ عنه بوضوح، هو أن توحيد منظومة التعليم الحكومي، يعني بالضرورة هبوط التعليم "التجريبي" المميز، إلى مستوى التعليم العام بالغ السوء، أي أنهن وأولادهن سينلن خدمات حكومية بالمستوى نفسه الذي تتلقاه غالبية المصريين، وبالطبع هذا سبب كافٍ للغضب.

ما تكشفه برامج "الإصلاحات" التي تتبعها الحكومة المصرية، بإشراف وتوجيه من المؤسسات الدولية، بدءاً من تسعير الطاقة والدعم التمويني، وصولاً إلى التعليم، هو توحيد مستوى الخدمة الحكومية، لا لصالح نموذج أكثر مساواتية، بل لتعميق الفوارق الطبقية، وتكثيف لاعدالة التوزيع. فتوحيد الخدمة، وسحب الرشاوى الطبقية بصُورها المتنوعة، معناهما في النهاية تعميم خالص لمنطق السوق وآلياته، حيث تنتفي المساحات الرمادية وإمكانات التحايل الممكنة داخلها: فإما خدمات حكومية موحدة، أو خدمات القطاع الخاص المميزة للقادرين.

ليس هذا بالضرورة أمراً سيئاً بالإجمال. فتوحيد الخدمات التعليمية العامة، كما غيرها من الخدمات، يعني انحساراً للهوامش المقننة التي يمكن لمؤسسة الحكم أن تستغلها في لعبة الولاءات، وفي تفتيت شرائح المستفيدين منها ضد بعضهم البعض. فأمهات "التجريبي" اللواتي خرجن اليوم، رافضات مساواة أطفالهن بأطفال التعليم العام، وربما لهن أن يخرجن في الغد جنباً إلى جنب مع أمهات "العام"، ليطالبن بتعليم أفضل للجميع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها