الثلاثاء 2018/05/22

آخر تحديث: 07:45 (بيروت)

الزفاف الملكي: تقاليد هجينة

الثلاثاء 2018/05/22
الزفاف الملكي: تقاليد هجينة
القبول الأبيض أخيراً؟ أم الاستثناء الذي يؤكد القاعدة؟ (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ظهيرة يوم الزفاف الملكي، كان بضع عشرات يحتفلون، في الميدان الصغير الذي لا يبعد عن بيتي سوى أمتار. كان المشهد متواضعاً إلى أقصى حد، ففي الحي اللندني الفقير الذي تسكنه غالبية من المهاجرين لا يمكن توقع أكثر من هذا. مقاعد بلاستيكية مرصوصة بقليل من الانتظام على الرصيف، فيما تبث سماعتان ضخمتان موسيقى ذات إيقاعات أفريقية، وعلى الأرض تتناثر أطباق ورقية ومعها القليل من عظام الدجاج وبقايا الطعام الذي كانت تبيعه عربة متنقلة لبيع الوجبات الكاريبية.

كان للمشهد أن يكون باعثاً على شيء من البؤس، لولا اليوم المشمس، على غير العادة، وطفلة سوداء في غاية البهجة، ارتدت زياً ملكياً واعتمرت تاجاً فضياً من البلاستيك، وترقص بكل حماس وسط الميدان. لدينا اليوم أميرة سوداء حقيقية، أو على الأقل ربع سوداء، وليس على الفتيات الصغيرات من بنات الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس، بعد اليوم، أن يتخيلن أنفسهن شقراوات أو بيضاوات، لينلن الشرف الأرستقراطي، أو ليكنّ جديرات بالحب الملكي.

خطوة أخرى تأخذها العائلة الملكية البريطانية، للتحرر من التقاليد. عروس من العامة وأجنبية ومطلّقة وأكبر سناً، والأهم: مختلطة العرق. في معظم التقارير الإعلامية تبدو ميغن ماركل مفعولاً بها، تهبط عليها تلك النعمة الملكية البيضاء، بقبولها، رغم لونها "غير النقي". أليس ذلك مدعاة للاحتفال، القبول الأبيض أخيراً؟ أم إنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة؟ اعتراف ضمني بعدم التساوي؟ يانصيب آخر، يعطى للمحرومين أملاً زائفاً في ضربة الحظ التي قد تنتشلهم يوماً، ليصبحوا أغنياء أو ملكيين أو جيدين.. تماماً كالبِيض؟ وفي تقارير صحافية أكثر تعاطفاً، تبدو ميغن هي الفاعلة، الموكل إليها "إنقاذ" العائلة الملكية، وبث الروح فيها، وتوحيد "بلادنا المنقسمة بعد البريكزت". هكذا، يبدو أن ثمن القبول بمختلطة العرق ليس أقل من إنقاذ الملكية والمملكة كلها. هذا ما يُنتظر من ميغن، ولا أقل من هذا. مهمة فادحة في مقابل الشرف العظيم الذي نالته.



ربما كان إريك هوبسباوم، محرر كتاب "اختراع التقاليد" (1983)، ليطرب عند قراءته لكل تلك المقالات الصحافية عما تجاوزته العائلة الملكية من تقاليد في سبيل تلك الزيجة ولصالح مراسم زفافها. فالمؤرخ الماركسي، الذي ربط بين الحداثة واختراع التقاليد، وبالأخص تقاليد الملكية البريطانية، كان ربما ليعيد علينا ما وصل إليه في السابق، بأنه لا تقاليد أصيلة وأخرى مزيفة، فالتقاليد بذاتها اختراع يدّعي الأصالة، وتكمن سلطتها الطاغية في تصوّر ثباتها عبر العصور، وتنبع سحريتها في ادعاء التعدّي والتمرد عليها. لكن، في كل تجاوز للتقليد، تثبيتاً لتقليد جديد، وفي كل تضحية ببعض منها، محاولة لتثبيتها وإنقاذها من سطوة الزمن.

هزت كلمة الأسقف الأميركي، مايكل كوري، الوقار الأنغليكاني، بحركات يديه الحماسية ونبرة صوته التي ترتفع وتنخفض على مقياس وعظ الكنائس الأميركية السوداء. كانت عظته التي ألقاها في الزفاف، عن الحب وقوته، مؤثرة بلا شك. لكنها كانت أيضاً تذكيراً بأنه كانت ولاتزال هناك كنائس "سوداء" وأخرى "بيضاء"، في أميركا، وفي بريطانيا أيضاً. وعظ أسود ووعظ أبيض، وألوان أخرى كثيرة. فكوري، أول أسقف أسود في تاريخ الكنيسة الأسقفية الأميركية، لطالما قال إن سبب انضمامه للطائفة، أنه كان يمكنه في كنائسها أن يتناول العشاء الرباني من الكأس نفسها مع شخص أبيض. دافع، يبدو مفهوماً وحزيناً في الوقت نفسه.



اقتبس كوري في كلمته، مارتن لوثر كنغ، وأشار ضمناً إلى فاجعة العبيد الذين كان يتم تعميدهم قسراً قبل شحنهم على متن السفن إلى الأميركيتين. من دون قصد، ربما تذكرنا عظة كوري "السوداء"، بانتصار دين الأقوياء، قسراً، وأن نكهة سوداء ليست كافية لتخفي حقيقة أنه دين "الرجل الأبيض"، منطوقاً بلغة "الرجل الأبيض" أيضاً، على حساب أديان وثقافات أخرى، تم محوها بالكامل، أو بقي بعضها ليكون عنصراً في بوتقة الصهر، وخياراً في لائحة طويلة من الألوان لتهجينات، مقبولة طالما كانت درجات من اللون السيد.

"المحبة قوية كالموت... لهيبها لهيب لظى الرب"، يستشهد كوري بنشيد الإنشاد، ويكرر كلمات من ترنيمة العبيد الأميركيين. "هناك بلسان في جلعاد"، والتي كانت تختلط عليّ فيها كلمتي "بلسان" و"قنبلة" الإنجليزيتين، في طفولتي، ولطالما سمعتها بالخطأ "هناك قنبلة في جلعاد". وربما كانت القنبلة أليق فعلاً بالمحبة، القوية كالموت والمشتعلة كجحيم الرب، لا البلسم. فتلك المحبة، أو "الرغبة"، كما كان للكاتب البريطاني، تيري إيغلتون، أن يطلق عليها، هي خطر على كل الهيراركيات: السن والدين والعرق والطبقة. فبحسب إيغلتون، فإن فداحة الحب، هي في أن أي شخص يمكنه أن يرغب في أي شخص، ويصبح تهديداً لكل التراتبيات والعدوات والراسخة، ولو نظرياً على الأقل.

ربما ليس لقران الملكية البريطانية، على الأرستقراطية الجديدة في هوليوود، أن يكون تلك القنبلة، ولا حتى أن يكون البلسم. لكن الزفاف الملكي يظل خطوة رمزية أخرى إلى الأمام، في طريق طويل، نتراجع فيه أحياناً، كما نتقدم. في بدايته، لم يكن مسموحاً للسود الحضور في كنائس أسيادهم، وإن حضروا، فكان غير مسموح لهم الجلوس فيها. وحتى وقت ليس ببعيد جداً، كان لا يمكن لهم أن يتناولوا العشاء الرباني من الكأس نفسها مع البِيض.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها