الجمعة 2018/05/11

آخر تحديث: 23:55 (بيروت)

أخطاء الشوق المطبعية

الجمعة 2018/05/11
أخطاء الشوق المطبعية
increase حجم الخط decrease

جئت باكراً إلى مطار فرانكفورت، أنتظر طائرة إسطنبول، وسأعرف متأخراً أن القدوم باكراً غرامة ودِيّة. لا يخلو الانتظار في المطارات الكبيرة من الأنس والسلوى، فهي تتدفق بالحركة، ولا تكفّ عن قذف المدينة بفلذات الأكباد وجمر الأشواق. مسافرون من كل الملل والنحل. المطار صندوق حي من صناديق الدنيا.

اهتديت أخيراً إلى بوابة الانتظار الصحيحة، من بين البوابات الكثيرة، كان خلفها منتظرون انتظار الجائعين للخبز من بيت النار، منهم من يحمل الورود، وفيهم من يحمل شاخصات ورايات عليها أسماء ضيوف غرباء. البوابة لها مخرجان يميني ويساري، اليميني للعائلات والأطفال، واليساري للأفراد.

مرّ بي عشاق، وأزواج، وآباء وبنون، ومضى آيبون أخرون إلى سبيلهم من غير منتظرين، يدفعون العربات الحقائب أو الحقائب العربات، وكتائب من وفود سياحية يحمل رائدها علماً، وطيارون ومضيفو طيران، من الشرق والغرب، بأزياء موحدة، من تقاليد البلاد، أعراق كثيرة يمكن معرفتها من الهيئات أحياناً، أو من نبرات اللغات، وبعض موظفي المطار يركبون دراجات بعجلتين، أو بعجلة واحدة، أو سيارات جيب بسرعات محددة، رائحين غادين. كانت الدراجة ذات العجلة عرضاً من عروض السيرك يوما، انتهى بعد أن تحولت السياسة إلى سيرك.

 عريسان سوريان ينتظران عروستين، يقفان إلى جواري، كلاهما يحمل باقة ورد، ومعهم أصدقاء وأقارب. عرفت أن اسم الأول أحمد، تقف معه سيدتان ألمانيتان، وهو يرتدي ثياب عريس أنيقة، أما الثاني، فاسمه ياسر كما سمعت صاحبه يناديه، اكتفى بقميص أبيض وبنطلون أسود. المسافرون يخرجون من جناحي المخرج فرادى، وأحياناً في مجموعات، من رحلات قادمة من أصقاع شتى، وسوري ثالث ينتظر زوجته لمّاً لشمل مزقته الحرب بمخالبها.

سألني السوري الذي ينتظر زوجته، بالألمانية، عن طريق إلى الداخل حتى يساعد زوجته، التي جاءت مع أطفاله وحقائب كثيرة، فأجبته بالعربية، وأخبرته أني دخلت إليه، ومللت هناك، وحذرته أنه قد يتعرض لمساءلة الأمن والحساب على الباب.

قدّرت من لهجته، دينه، ومكان الولادة، سألني عن محلي هو الآخر، فأجبته، وهو سؤال مقنع عن الدين والطائفة، لتقدير الولاء السياسي، إنه سؤال يشبه تبادل الروائح بين الحيوانات. اختبرنا بعضنا بمناطحات خفية، واطمأن إلي، وبدأ يندب الحال السورية ثم وعظ: أرأيت ما فعلت بنا الحرية؟ ثم شتم أخت الحرية، وأمها، وشرف قريباتها.. برزت زوجته من المخرج اليميني، فتوقف الشتم. وصلتْ تجرّ حقائبها الكسيحة جراً على الأرض، فالحصول على عربة يقتضي حمل عملة معدنية هي اليورو من الوطن، وهو ما يغفل عنه المسافر القادم، فساعدته في حمل حقيبة ثقيلة، مغضياً عن شتم قريبتي الحرية، ووجدت له وصفاً مناسبا من قاموس الإعلام السوري، هو "من ضعاف النفوس" وهو وصف أطلق على محمود الزعبي في هوامش انتحاره، في الإعلام السوري، تخفيفاً للكارثة الرسمية.

خرجت صبية ألمانية عائدة من رحلة، واتجهت إلى العريس ياسر، وسألته في ظرف عابث: أهذا الورد لي؟ فابتسم وهزَّ رأسه في لطف. مضت، وهي تضحك، وهممت أن أعاتبه وأقول: قدّمنا أرض سوريا وشعبها عبيداً وسبايا إلى كل غزاة العالم، وما كان يليق بكرمنا أن تبخل عليها بوردة. كانت تمزح.

ظلّ العريس مثلي يتربص بالبوابة، عيني تمتنع من الغمض من غير ريح تهب على الولد.

 تزاحم المنتظرون، واقتربوا كثيراً من البوابة المسلّحة بكلب الكتروني خفي يحذّر المنتظرين من الاقتراب إلى المنطقة المحرمة، حتى كادت البوابة أن تنسد. زمّر الكلب الآلي، فابتعدنا، واقتربت سيدتان ألمانيتان، واحدة في تخوم الستين، والثانية في الأربعينيات تحملان كاميرات أجهزة الهاتف، التي صارت عضواً إضافياً في جسم الإنسان المعاصر، غير العضو الذي اكتشف مؤخراً في جدار المعدة. إنها عين ثالثة للإنسان المعاصر الأعمى.

تبدو على الألمانيتين لهفة غريبة، ويحدوهما شوق. سألتُ السيدة الستينية، التي زاحمتني في الركن، الذي وجدتُ فيه عموداً أنتصر به على تعبي من بأس الوقوف الطويل: حضرتكِ صديقة العريس السوري أحمد؟ وافقتْ، وتابعتْ التصوير، وسألتني بدورها عن سبب الانتظار، فأخبرتها أني أنتظر شروق الشمس من هذه البوابة.

المنتظر يحب الثرثرة والإفضاء، والكلام يهدئ جروح النفس، أخبرتها أن غياب الشمس طال سنين عدداً، فوضعت يدها على قلبها وقالت بالألمانية جملة، وجدت ترجمة مناسبة لها هي: ويح أمّه.

ونظرتْ إلى أمّه، التي كانت محروسة ببناتها تنتظر بزوغ الفجر من البوابة، قلت لها في بلادنا يسمّون الولد بالضنى، لأنه يضني، وكنت أمازح ابني في طفولته وأقول له: الناس تنجب من أجل الذرية والميراث والفطرة، أما أنا فأنجبتك من أجل إحضار الكلاّب من عند الجيران.

ابتسمتْ، فكل الألمان لديهم ورشات كاملة من عدد الحدادة المنزلية في البيت، غالباً في القبو، استوضحتْ مبتسمة: أنجبتْ من أجل استعارة الكلّاب، تلك الآلة التي يخلعون بها المسامير؟

قالت: لم لا تشتري كماشة؟

الأوربيون يميلون إلى الحرية الفردية، والفردية أنانية، ومن أجل التحرر من عبء الذرية، تربية الأولاد مكلفة للصحة والمال ومجهدة للقلب، والأولاد المعاصرون عاقوّن، وعادة ما يدافع المثليون عن المثلية بالخوف من الخصوبة، وضمان العقم التام. أمس ناقش البرلمان الألماني قانوناً يمنح اللاجئين العاملين في الرعاية الطبية، الإقامة الدائمة، فالأمة الأوربية تشيخ، وحسب التوقعات سيكون عدد سكان ألمانيا بعد سنوات عشر، ستين مليوناً.

قلت: لدي ثلاثة كلاّبات، مختلفة الحجوم، من أجل نزع المسامير، لكني رجل نسّاء وأضيعها عادة.

اهتمت السيدة الأربعينية بالحوار، وانضمت إلينا، وهي تسدد عينها الثالثة إلى الباب، منتظرة العروس.

فجأة خرجت العروستان معاً، يبدو أن وحدة الحال، وثياب السندريلا، جمعتهما، وهما من مناطق متباعدة ومختلفة، ولمّت منهما شملهما في الرحلة. توجه العريسان إلى العروسين، فنبح زمور الإنذار لتجازوهما منطقة أمان الانتظار، وظهر أن خطأ مطبعياً ثانياً وقع، قد يكون سببه دوار الشوق، فقد احتار كل عريس في عروسه؟ أمن المعقول أن يخطئ العريس في عروسه؟  الأمر يشبه مكيدة كاميرا خافية، والشبه بين العروسين غير كبير، مؤكد أن العريسين تبادلا مع العروسين الصور، وتحادثا عبر وسائل الواتس والماسنجر والسكايب ساعات طوال، وتبادلا الأحلام، فكيف يقع مثل هذا الخطأ؟ أصلح أحد العريسين الخطأ سريعاً، واهتدى إلى العروس الصحيحة، فرضي العريس الثاني بالعروس الباقية، وعانق كل عريس عروسه، وصفق بعض الحاضرين، وزغردت إحدى السيدات، فالقوانين الألمانية تبيح ما تلجمه تقاليدنا، وطفرت دموع من عيني السيدتين الألمانيتان تأثراً، بطلي تأخر كثيراً، وكل ما ظهر شاب، اتجهت إليه، وأنا أكاد أرتكب الخطأ المطبعي نفسه، فدوار بحر الشوق يسبب الدوخة، الحيوانات تميز عجولها من الرائحة. بادر الجمعان إلى زفّة شامية مشتركة في بهو المطار، امتزجتْ فيها صيحات العرس الحلبية بالشامية، تسابق إليها الألمان للتصوير والصور التذكارية، ظناً أنها نسخة من فيلم مماثل لفيلم العروس لريتشارد غير وجوليت روبرتس.

سمعتُ ألمانياً خارجاً من النفق، بشارب، يقول لزوجته وهو يرى سيدتين إيرانيتين ترتديان عباءتين، وتمشيان في صالة الانتظار الطويلة الفارهة: حجاب، يجب أن نتصل بالبوليس، ثم رفع هاتفه، وأجرى اتصالاً، لكن يبدو أن البوليس لم يحفل به، فالمطار موانئ عالمية، وصاحب الشارب يعاني من حمى فهرنهيت 11 9 المستمرة في داعش، وستستمر طويلاً.

أوشكتُ أن أصاب بأعراض دوار الشوق، فكلما ظهر شاب ظننته ابني. الشوق في الغربة يشبه القمار، وهو الذي جعل صريع الغواني وصقر قريش يهويان نخلة، شبيهتهما في التغرب والنوى. وجعل امرئ القيس مواطنا عالميا بقوله: كل غريب للغريب نسيب.
تأخر البطل كثيراً، ظهر بعد ساعتين من موعده. وجدت السيدة الألمانية تصوره، من غير خوف من تهمة انتهاك الخصوصية، تأميم العواطف في المطار على أشده، شيء يشبه المهرجان، وصل ابني أخيراً، بعد العناق الطويل، وتبادل الروائح القديمة تأكدت، هذا ابني، وها هو الثقب في أصل أذنه، سألته أن يبرز جواز سفره، خوفاً من أخطاء الأشواق المطبعية.

علمنا أن سبب التأخير أمران، الأول هو لعنة الجواز السوري، والثاني هو أن الحقائب أصيبت بالدوار أيضاً، وسافرت إلى الهند.

عدنا إلى السيارة، التي قطعتُ لها تذكرة دخول، فلم أجدها في مبركها، أعلمنا موظف، أن السيارة مضت حقباً، لأني أوقفتها في غير مينائها الصحيح، روليت دوار الأشواق أصاب السيارة أيضاً.

لمحت قبل المغادرة خصم الحرية الشتّام، ينتظر مع حقائبه الكثيرة، وزوجته، الباص، حاول فيها نقل سوريا كلها. لوّحتُ له..

خرجت الألمانيتان، سعيدتين بالعثور على كنتهما السورية، ولمّ شمل عتيق من فجر البشرية، عزتني الستينية في موقف الباص: مؤسف كل هذا الدمار في بلدكم.

دمرت البلاد كلها ولم نفلح في نزع المسمار.

في نهاية فيلم أبو كاليبتو، إخراج ميل جيبسون، يقف "مخلب النمر"، مع زوجته وابنه، وقد نجا بعد مطاردة عنيفة من مذبحة القرابين، وينظر إلى الغزاة البيض القادمين من البحر في سفن كبيرة. تسأل الزوجة زوجها: هل نذهب، فيقول لها بل نقصد الغابة بحثا عن حياة جديدة. ويأمر طفله قائلا: أسرع أيها السلحفاة الراكضة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب