الثلاثاء 2018/12/11

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

الخوف مرة أخرى

الثلاثاء 2018/12/11
الخوف مرة أخرى
"الشعب يريد اسقاط النظام" على أحد جدران باريس (غيتي)
increase حجم الخط decrease
"هزيمة ماكرون في باريس تطلق صفارات الإنذار في أوروبا"، هكذا عنونت وكالة "بلومبرغ"، قبل أيام، إحدى مقالاتها عن الرئيس الفرنسي وعن "المرة الأولى التي يتراجع فيها خلال فترة رئاسته" أمام تظاهرات "السترات الصفر". ولا تطلق الوكالة تحذيراتها في ما يخص القارة العجوز وحدها، بل تذهب إلى أن الكثير مما يتعلق بـ"النظام العالمي على المحك". ولا يقتصر رد الفعل المبالغ في تشنجه على "بلومبرغ". فتراجع الحكومة الفرنسية عن ضرائب الوقود الإضافية، التي أطلقت الاحتجاجات، كان علامة مفزعة لدى الكثير من المعلقين من اليمين واليسار سواء بسواء.

فهزيمة ماكرون الذي كان يحمل "راية العولمة" في قمة العشرين قبل أسبوعين، بحسب "بلومبرغ"، وكان يُنظر إليه بوصفه الشريك الرئيس لميركل في الدفاع عن القيم والوحدة الأوروبية، تبدو للبعض أكثر من مجرد تراجع في مشواره السياسي، بل إنذاراً بقرب انهيار السد الأخير أمام طوفان الشعبوية. أما عن معلقي اليسار في الإعلام الغربي، فأبدوا قدراً ملفتاً من التحفظ تجاه الاحتجاجات، وحذروا من الاحتفاء بحراك يصب في النهاية في صالح اليمين المتطرف.

مرة أخرى، يبدو توحد كل من اليمين النيوليبرالي، واليسار المؤسسي، وراء ماكرون، مبنياً على الخوف. فالبديل المتاح هو مارين لوبان، أو ماهو أسوأ. وبالطبع، فإن التهديد الذي يشكله صعود أحزاب اليمين المتطرف والنزعة الشوفينية في خريطة السياسة الدولية، لا يمكن التهوين منه. لكن طريقة توظيف ذلك الخطر، مقترناً بوصم أي حراك جاماهيري بـ"الشعبوية"، يبدو مفزعاً أكثر من الصعود اليميني نفسه. فالتخيير بين الشوفينية الشعبوية، أو الخضوع لسياسات تقشف مؤلمة وتفكيك دولة الرفاه، لصالح هيمنة شبه مطلقة لرأس المال العابر للقارات باسم العولمة، لا يدع مجالاً للاختيار، فهو صيغة محضة للترويع.

ومعادلات الخوف تلك ليست جديدة على تاريخ الصراعات الإيديولوجية بالطبع. فالبرابرة كانوا دائماً على أعتاب روما، وكان الجميع في انتظارهم، وصيحة " الاشتراكية أو البربرية" مع نبويتها الصادقة لم تكن بعيدة من ذلك الميراث. أما "الخطر الأحمر"، فإن جدّيته القاتلة أنقذت الرأسمالية من نفسها، وأسست لمشروع دولة الرفاه. فخوف النخب الحاكمة من ثورات، على غرار الثورة البلشفية، كان الدافع وراء إصلاح المنظومة الرأسمالية وتدعيمها بمؤسسات للضمان الاجتماعي وصمامات للأمان تتيح للطبقة العاملة مساحات للانخراط في التفاوض والضغط، من دون الحاجة إلى هدم المنظومة بمجملها أو استخدام العنف المفرط.

لكن، وكما كان الفزع من الشيوعية هو ما صاغ الرأسمالية الرحيمة بعد الحرب العالمية الثانية، وقاد ازدهاراً اقتصادياً تشاركت في ثماره الطبقات الوسطى والعاملة في أوروبا بشكل ملموس، فإن تراجع ذلك الخطر هو ما قاد إلى صعود نيوليبرالية ريغان-ثاتشر لاحقاً، وعمل على تفكيك الدولة الراعية وسحب مكتسباتها واحداً تلو الآخر. ومع استيعاب دول العالم الاشتراكي السابق داخل منظومة الرأسمالية المعولمة، لم يعد هناك خطر يمكن توظيفه كنقيض مروع يحافظ على الوضع القائم، سوى الجهاد الإسلامي.

لكن الخطر "الإسلامي" كان فارغاً إيديولوجياً، وطارئاً، ولا يبرر قسوة موجات التقشف الحكومي المتتابعة، سوى بتحويله إلى كراهية جامعة للأجانب والمهاجرين بوجه عام. واليوم، تبدو النيوليبرالية المعولمة في أزمة عميقة، بعدما غابت كوابح الخطر الأحمر لعقود، وتبدد خطر رايات السود إلى لا شيء.

يظل خطر اليمين المتطرف حقيقياً وداهماً. لكن المؤسسات السياسية في الغرب ونخبها، بدلاً من استيعاب دروس الماضي القريب، وتحويل التهديدات المحيقة بها إلى دافع للإصلاح الذاتي وإرضاء قواعد ناخبيها، فإنها تطرح خياراً انتحارياً أمام الجميع: إما المنظومة النيوليبرالية القائمة وتعميق لاعدالتها، أو اليمين الفاشي.

تطلق هزيمة ماكرون صفارات الإنذار بالفعل. لا للتحذير من صعود اليمين، بل للإعلان عن إن سياسات الخوف والترهيب من ذلك الصعود لم تعد كافية للحفاظ على الوضع القائم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها