الخميس 2016/12/15

آخر تحديث: 07:45 (بيروت)

معرض الكتاب واحتضار الكاتب

الخميس 2016/12/15
increase حجم الخط decrease

 وأنتَ داخلٌ إلى البيال، حيث أرض معرض الكتاب العربي، يخال إليكَ بأن نصف المدينة جاءت إلى هنا، بحثاً عن كتاب. الزحمة طوفان. صفان من السيارات المشلولة، على امتداد أكثر من كيلومتر واحد. مشاة استغنوا عن السيارة، وصبروا على العتمة والحفر، فساروا مثل المؤمنين الذين يشقون عباب البحر، لا يرمون سوى البلوغ. هذه السنة، كانوا أكثر من سوابقها؛ كل سنة يزداد السواد ألفاً على ألف. وأنتَ تتأمل بكل هذه الكتل البشرية، تكون نسيتَ انطباعاتك عن السنة السابقة، أو ربما تريد ان تطمئن نفسك، فتقول، أيضاً وأيضاً، "لعلّ وعسى": ربما هم قادمون من أجل كتاب، او كتب. ربما هذا الجمهور يختلف عن ذاك الذي ساد العام الماضي... أو أي عزاء آخر على الساعة التي تقضيها في السيارة لإجتياز الكيلومتر الواحد، للوصول إلى الهدف. وتشحن نفسك بحماسة جديدة، "لعلّ وعسى"...

ولكن ما أن تدخل قاعة المعرض، حتى تتبدّد الحماسة، ويترسّخ ما كان مجرّد انطباع في السنوات السالفة: فكل سنة بعد أخرى، يهبط المزيد من الغربة على المعرض؛ غربة المعرض عن إسمه، غربة القارىء والكاتب.

"جمهور" المعرض أولا، الذي، كلما ازداد عدداً، كبرت لا مبالاته بالكتاب نفسه: متنزّهون، عائلات مع عربات تجرّ أولادها، راشدون يتسكعون في المقهى الضيق الممتلىء، والذي تمر من أمام رواده أشكال من المواطنين لن تجدهم إلا هنا. وليس على وجوههم أي سمة من سمات محبي الكتاب. هم حضروا إلى هنا، ليشتروا للأولاد أفلام الفيديو المعادية للكتاب، أو القرطاسيات المفرحة القليلة الثمن، أو للتسلية مع الأصحاب، أو لمجرّد التنزّه وسط "ميدان" مغلق. فقليلاً ما تلتقي بأناس يشبهون القراء، أو الكتّاب، أو "المهتمين".

أما الكتّاب أنفسهم، خصوصاَ الذين يوقعون كتبهم الجديدة، فمنقسمون إلى أصناف: صنف "باب أول"، وهم النجوم، الذين بنوا إسمهم حجرة فوق حجرة، فلا قلق لديهم: يجتمع حول إسمهم هذا الحشد الكافي من الشارين وطالبي التوقيع. الصنف الثاني،  نظير الأول من حيث الشدّة، هو "مدير" في مؤسسة، أو رئيس قسم، أو وجيه قرية، يزدحم حفل توقيعه إما بالموظفين "الأوفياء"، أو بالمريدين أو الأهل المعتزين بابن قريتهم، أو بيئتهم، صاحب القلم. وجميعهم يشتري الكتاب الذي يوقع الكاتب على صفحته الأولى كلمات المديح الرقيق، لن يقرأوا غيرها، لن يقرأوا الكتاب، لأنهم لا يحبون القراءة وليسوا مهتمين إلا بالزعيم الذي ألّفه. الصنف الثالث من الكتّاب "الصعاليك"، الذين لا عزوة ولا شهرة ولا موقع يفيدهم في جذب الشارين، فهم يعيشون قبل التوقيع وبعده حالة تشبه جهنّم الحمراء.التوتر عندهم يبدأ منذ اللحظة التي يحدّد فيها تاريخ التوقيع في المعرض: عليهم جلب العدد الأكبر من المحتفلين، وإلا إسودت وجوههم أمام الناشر، الذي لا يتوقف عن التألم على الأرباح التي لن يجنيها من كتاب الصعلوك هذا. وتكون المعضلة  "الوجودية" المطروحة عليه: لكي يجمع العدد المربح، كان عليه التنبّه باكراً، ونسج علاقات "صداقة" مع الشراة المحتملين. أو اللحاق بنفسه، وإنقاذ كتابه بتنشيط هذه العلاقات عشية المعرض، وتفعيل هذا التنشيط أثناءه. ولكن المعضلة تتفاقم في حال استجاب لنداء "التسويق الثقافي": فاذا كان سيمضي وقته متجولاً بين الأهداف "الذكية"، من أين له، ساعتها، الوقت الكافي ليقرأ؟ أو ليكتب؟ أو ليهدأ؟ هذا السؤال تجده واضحاً في وجوه الصعاليك، وينذر ببداية نهاية الكاتب، بعد نهاية القارىء.

الناشر النقّاق، الذي أخذ لسانه على حسابات الربح والخسارة، يبدو وكأنه المظلوم المكرَّس: كل سنة يتكلم عن تضاؤل عدد الكتب المباعة، عن الآلاف التي يبددها في سبيل الكتاب، عن تضحياته، ومشاريعه المستقبلية، وتهديداته بالإقفال الخ. والاعلام لا يفعل شيئاً آخر، غير الاسترسال في قدر الناشر البائس، يسألونه، يحاورونه، وكأن المعرض هو معرض الناشرين لا معرض الكتاب. أما الكاتب نفسه، فلا أحد يتوجه إليه بسؤال عن الوقت الذي استغرقه كتابه، عن تضحياته، عن خسائره، عن مصدر عيشه... وإذا كان حظه كبيراً، وسأله الإعلامي أو الصحافي عن كتابه، فيكون الموضوع خارج عن "إشكالية" الخسارة والربح والنجاح والفشل والرضى والبؤس... والمستقبل.

كل هذا الهواء الثقيل، كل هذا الصخب، كل هذه الثرثرة، كل هذه الاصوات التي تسقط على الأرض، بلا أي صدى، كل هذا المناخ الذي يقتل فضولك للكتاب، فيما أنتَ عاشقه... كل هذا يعيدك إلى الفكرة القائلة باحتضار الكاتب. وأين؟ في ما يُفترض انه عرين الكتاب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها