الخميس 2013/12/26

آخر تحديث: 21:32 (بيروت)

الحرب هي السلام

الخميس 2013/12/26
increase حجم الخط decrease
أواخر الأسبوع الماضي، بعد أيام على بدء حملة القصف الجوّي بالبراميل على أحياء حلب الواقعة خارج سيطرة جيش النظام والميليشيات المُلحقة به، قدّمت الولايات المتحدة مقترحاً لإعلانٍ غير ملزم في مجلس الأمن، ليس فيه من الديباجة أو المضمون القانوني أبعد من التعبير عن "السخط". سُحب هذا المقترح سريعاً عقب رفضٍ روسيٍ شديد، كما سُحبت مقترحات أخرى مُشابهة قدّمتها وفود لوكسمبورغ وأستراليا وبعض الدّول العربيّة. نقل ديبلوماسيّ غربي لوسائل الإعلام يومها أن روسيا هدّدت باستعمال حقّ الفيتو "حتّى من دون قراءة هذه النصوص"، إن لم يسحبها أصحابها. من جهتها، عبّرت الدول الطارحة لمشاريع الإعلان الأممي أنها سحبت هذه المقترحات خشية التأثير سلباً على الاستعدادات لعقد مؤتمر "جنيف2" للسلام بشأن سوريا في 22 كانون الثاني/يناير المقبل. 
 
في الأيام التالية لهذا التجمّد الأممي المخزي، استمرّ قصف أحياء حلب "المحررة" (وهي الأكثر شعبيّة، والأفقر، والأقل مقدرة على تحمّل ويلات ما يُسكب على حلب من حقد أعمى) من الجوّ بالبراميل المتفجّرة. وتتلاحق الأنباء والتقارير عن المجازر التي تقع تحت وطأة هذه البراميل بتواترٍ محموم. بضع ساعاتٍ بالكاد تفصل بين نبأ سقوط عشرات الشهداء، عن النبأ الذي يليه. يحدث هذا وسط صمتٍ وتجاهل ثقيلين. ﻻ يجوز أن نُزعج "صُنّاع السياسة العالميّة" بالأنباء ومطالبات المواقف حول مجازر يقترفها النظام الأسدي، فهذا قد يُحبط جهود التوصل للسلام في سوريا!
 
بعد معاناة، أنجبت "ديستوبيا" جورج أورويل، في روايته "1984"، شعار "الحرب هي السلام". يبدو اليوم أن هذا الشعار لم يعد ديستوبياً بالمطلق، بل بات من صميم الواقعيّة السياسيّة الأكثر بديهيّة. هنيئاً لإسرائيل ولبشار الأسد على هذا التحوّل. 
 
البرميل المتفجّر هو الاختراع الأكثر تعبيراً عن ماهيّة الحرب التي يشنّها النظام الأسدي على الشعب السوري: مزيجٌ من الحدّ الأدنى من التكنولوجيا مع كثيرٍ من الرثاثة، ومعين ﻻ ينضب من الكره الأعمى والنزعة الدمويّة التدميريّة. هو توقيع النظام السوري على لوحات الخراب التي ينثرها في أركان الجغرافيا السوريّة. لا يمكن توجيه البرميل المتفجّر، وﻻ يمكن اﻻستفادة منه في تحقيق إصابات استراتيجيّة. هو كتلة موتٍ عشوائي يرميها "نسور الوطن" فوق التجمعات السكانية بلا اكتراثٍ بأي عشراتٍ سيموتون وأي عشراتٍ سيجرحون، أو أيّ أبنيةٍ ستسوّى بالأرض. كلّهم سواسية، وكلّهم يجب أن يموتوا! لكنّ ليس هذ الكلام هو المهم. ﻻ فائدة في إعادة التفكير في طبيعة النظام السوري الإجراميّة، للمرّة الألف، بعد أكثر من ألف يوم من المقتلة المستمرّة. 
 
سورياً، ﻻ يُمكن، رغم كلّ الحجج والبراهين الموضوعيّة التي يمكن إبرازها لبطلان الفرض، إﻻ أن نتفهّم أولئك الذين يرون أنّه يجب البحث عن حل تفاوضي مع النظام وفق هذه الظروف التي يفرضها العالم علينا. هناك موجبات إنسانية لهذا التفهّم، وهناك حاجة كبرى لقراءة السيكولوجيا التي ترغب بالقفز فوق كلّ القرائن الموضوعيّة التي تُرينا بوضوح أن نظام بشار الأسد ليس إﻻ آلة حرب عصيّة على السياسة، وأنها لن تذهب إلى السياسة إﻻ مرغمة على قتل كثيرٍ من نفسها للحفاظ على القليل منها، ﻷن آلة الحرب ستأكل نفسها وتنهار فور تباطؤ دورانها. ماذا لو؟ دعونا نجرّب؟ هذه الأسئلة مفهومة، بل ومُتضامن معها، ويكاد المرء حقّاً أن يتمنّى أن يكون على خطأ. يتمنّى أن يأتي له غداً أحدٌ ليقول: أترى؟ ألم نقل لك؟ الخارق للمقدرة على التحمّل والفهم هو الرياء الدولي تجاه جنيف2: المُعارضات السوريّة ﻻ تتوقف عن تلقي الضغوطات والابتزازات، تارةً باسم عزل التكفيريين، وتارةً أخرى بابتزازٍ إنسانوي مقيت يربط بين واجب العالم الإنساني ومناورات الأزقة السياسيّة البائسة، كي تذهب إلى جنيف2 من دون أيّ قيد أو شرط. ليس فقط هذا، بل تخرج علينا كلّ أسبوع جرعة دفعٍ نحو إفهام المُعارضين بأن ثمة معادلات دولية، سياسية وأمنية، ستقتضي أن يبقى الأسد ولو إلى حين. الشعب السوري خارج هذه المعادلات بالطبع. 
 
من جهته، ﻻ يُطالب النظام السوري بأيّ مقدّمات، وﻻ حتّى من باب إبداء حسن النيّة أمام اﻻستحقاق السياسي المفترض (بل المزعوم). ﻻ إطلاق لسراح معتقلين، وﻻ وقف لقصف المدنيين، ولا فكّ للحصار عن مناطق وأحياء وبلدات، ولا حتّى إدخال لمساعدات إنسانيّة فعالة. المُشككون في أن سلوك نظام الأسد يتوافق بالحدّ الأدنى مع ما يُنتظر من طرف في مفاوضات دولية من أجل السلام، هم الذين يتلقّون اﻻتهامات بتعطيل "الحلّ السياسي"، ﻻ قاصف البراميل فوق رؤوس أطفال حلب. التجهيز لمفاوضات السلام يأتي من باب ترك وارث أبيه يقترف المجازر من دون أن يسمع ولو تنديد على شكل بيان أممي غير مُلزم يُعبّر عن "سخط".
الحرب هي السلام! 
 
increase حجم الخط decrease