الجمعة 2015/08/28

آخر تحديث: 15:15 (بيروت)

وعيٌ يُصقل في شوارع بيروت

الجمعة 2015/08/28
وعيٌ يُصقل في شوارع بيروت
من مسيرة "بدنا نحاسب" (خليل حسن)
increase حجم الخط decrease
لم تكن بيروت يوماً أجمل من بيروت التي رأيناها على مدى الأسبوع الماضي. شوارع وسطها عادت أخيراً إلى الحياة مع عودة اللبنانيين إليه، باختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية وخلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية. بيروتنا اليوم لوحة متفجّرة بالألوان والشعارات وآلاف الحناجر الصارخة: "هنا الشعب"، بوجه طبقة سياسية تناست وجوده.

كثير ما يقال عن مساوئ هذه الطبقة غير القادرة على فعل شيء، سوى إعادة انتاج نفسها بأقبح نسخات. اليوم نحن كشعب نقف أمام مجموعة سياسية مختلفة على كلّ شيء، باستثناء سرقة المزيد من أموالنا، وإن عبر قتلنا جماعياً هذه المرة.

مشهد النفايات المتراكمة في الطرق، التي تنتهي إما على شكل مكبات عشوائية في الغابات والوديان والمحميات، أو سموم محروقة متغلغلة مباشرة في جلودنا ورئاتنا، كفيل لوحده بإسقاط حكومة، في أي مكان من العالم يحكمه المنطق السليم. لكن في لبناننا هذا، المنطق دفن نفسه، وحلّت مكانه الحسابات السياسية والطائفية وصولاً إلى الإقليمية. رئيس مجلس النواب العابر للزمن، اعترف بنفسه بقوله إنه "لولا الطائفية لكان قامت علينا ثورات".

وبذلك يصبح مطلب محاسبة مسؤولين عن إخفاقهم بتأمين أدنى حقوق الشعب- هواء قابل للاستنشاق- بمثابة فتح "صندق باندورا" وتنفيذ أجندات أحزاب سياسية مشاركة في الحكم ومستفيدة من إسقاط الحكومة. هذا هو الوجه القبيح للوضع الحالي.

لكن، وبالعودة إلى الوجه الجميل الذي طال انتظار استدارته، نرى دينامية شعبية تنمو في الشارع الذي أصبح أيضاً مكان تطورها الطبيعي. ليس غاية هذا النص صفّ أبيات الشعر، لكن من العدل تسجيل إن ما نراه اليوم هو من المرات النادرة، إن لم يكن المرة الوحيدة، التي ينزل فيها اللبنانيون إلى الشارع، بعفوية مكبوتة، منسلخين عن كل ما عرفوه من أحزاب سياسية وشعارات أفلاطونية منفصلة عن واقعهم، وهم ماضون ومستمرّون بالرغم من عنف سلطة يتدنّى وصفها إلى ميليشيا.

عودة الشعب إلى وسط بيروت
الأساليب القمعية والمخابراتية التي تنتهجها القوى الأمنية ضد المتظاهرين السلميين العزل، لم تمنع هؤلاء من فرض صوتهم في وسط بيروت. فاللافت هذه المرّة إن الحركة الاعتراضية لم تعد محصورة في ساحة الشهداء كما درجت العادة بعد 2005، بل اختار المشاركون هذه المرة بالتوجه إلى قلب بيروت بسراياها ومجلس نوابها، في تحدّ نادر لسلطة، لم ترَ سبيلاً للردّ والردع سوى ببناء جدار يعزلها عن شعبها.

اجتاز هذا الحراك امتحانه الأول بإثبات وجوده وفعاليته، وهو أربك السلطة ومناقصاتها الوقحة وأجبرها على عزل نفسها وراء عارها، بقطع إسمنت، لم تحجب بطبيعة الحال هدير أصوات المطالبين بـإسقاط كل شيء.

وعي سياسي جديد
من اللافت أيضاً إن قاعدة هذه الدينامية الجديدة، التي تتناوب على تغذيتها عشرات الحملات بأسماء مختلفة، هي بغالبيتها الساحقة شبان وشابات من مواليد زمن "ما بعد الحرب"، أي إن سيكولوجيتهم غير محكومة بذاكرة الحنين إلى هذا الزعيم وطاعته العمياء وكره ذاك. بل هؤلاء بلغوا في زمن خيبة "ثورة 14 آذار" (باعتبارها لحظة مفصلية في الوجدان اللبناني، وعدت بسيادة وحرية واستقلال)، وتعايشوا يومياً مع فشل الحكومات "السيادية" المتعاقبة التي تشارك فيها جميع الأحزاب السياسية دون استثناء، والتي سمحت لنفسها، لمرتين، بالتعدّي على حق الشعب باختيار ممثليه ومحاسبتهم.

أين البرنامج؟
امتحان هذه الدينامية الثاني قد يحلّ السبت المقبل، الذي يُنتطر أن يكون موعداً لتظاهرة حاشدة، دعت إليها حملة "طلعت ريحتكم"، بعدما أجّلتها من الإثنين نتيحة أحداث ليلة الأحد الدامية.

ملاحظات سُجلت على أخطاء كبرى ارتكبتها منظمو الحملة تلك الليلة، قد يكون أخطرها دعوتها قوى الأمن إلى توقيف "المندسين" الذين ينفذون "أعمال شغب". ليتضح لاحقاً إن هؤلاء الشبان هم جزء أساسي من الشارع المغبون والغاضب التي دعت لحشده.

تصويب المسار واستدراك الأخطاء تم سريعاً بأصوات مطالبة باستمرار الحراك، انبثقت عنه حملات أخرى استكملت عمل "طلعت ريحتكم" واستوعبت الشباب المندفع والغاضب، بشكل يدلّ على أن هنالك وعياً ما يُصقل في الشارع نفسه، أخرج  التحركات من "احتكار" المجموعات المنظمة له، لملم بعضه وصحح أخطائه وأعاد بالدفع نحو الهدف المنشود.

بعد تجاوزها امتحان الحشد، يبقى أمام هذه الدينامية التحدي المتمثل في وضع برنامح أهداف بيئية وخدماتية وسياسية بمهل زمنية محددة، تنفذ على أساسه التحرك وتدعو الشعب للنزول والتصعيد إذا دعت الحاجة.

الشعارات المطروحة الآن طموحة ومحقة، لكن تنفيذها شبه مستحيل من دون خطة عمل ممنهجة على مدىً طويل. فالدعوة إلى التظاهر تحت شعار رومانسي مثل "إسقاط النظام" ستجابه بسؤال منطقي: عن أي نظام تتكلم؟

لكن، مع حسبان افتراضية تمكن هذا الحراك من حماية صدقيته والحفاظ على زخمه ونظافته من الطبقة السياسية (التي تسعى بكل وقاحة استغبائية ركوب موجته)، وعمد إلى الضغط المحدد الأهداف، بجميع الوسائل المتاحة، إن كان عبر التظاهر أو حتى العصيان المدني، لحلّ ملف مطلبي، الواحد تلو الآخر، ونحج في استحصال المواطنين على حقوقهم، الواحد تلو الآخر.. فهذه هي الطريقة الفعلية الوحيدة لإسقاط هذا النظام الموجد للإحكام على الحكم، سقطة بعد الأخرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها