في العام 2017
قطع رجل عضوه الذكري في حلب في مشهد مروع، رفضاً للخدمة العسكرية الإلزامية في جيش النظام السوري. حينها كان الشاب البالغ من العمر 25 عاماً ويحتج باستخدام جسده ضد سلطة غاشمة تتحكم بكل تفاصيل حياته، مثل أي سوري آخر. واليوم في العاصمة السورية دمشق، يحتج رجل آخر، ربما، بالمشي عارياً في ساحة الأمويين على انعدام كافة مقومات الحياة الكريمة والطبيعية، في دولة تدعي أنها تعافت من "الأزمة" وانتصرت على "الحرب الكونية".
وظهر الرجل في فيديو صوّره أحد المارة، عارياً من دون سياق أوسع لقصته، ما فتح الباب واسعاً أمام التكهنات، لكن الثابت هو اعتقاله مباشرة من قبل قوات الأمن واتهامه بتعاطي المخدرات، وخدش الحياء العام، بحسب تقارير إعلامية محلية. وفيما لا يمكن التأكد من قصة الرجل فإن الاحتمالات كانت رائجة في مواقع التواصل من الحديث عن كونه يحتج ضد السلطة حتى الجنون، بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية الخانقة، وصولاً إلى الرواية الأكثر عاطفية بأنه باع كل ما يملك من أجل توفير الدواء لابنته المريضة، في بلد يعيش أكثر من 90% من سكانه في الداخل تحت خط الفقر، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، فيما يعاني 60% منهم على الأقل من انعدام الأمن الغذائي.
والحال أن الاحتجاجات العارية كانت حاضرة عبر التاريخ منذ قرون، ويتفاوت النظر إليها بين كونها شجاعة في تحدي المحظورات والسلطة، وبين كونها مسيئة للقيم الاجتماعية السائدة. وتحضر اليوم بشكل خاص في صورة ناشطات حركة "فيمن" النسوية التي انطلقت من أوكرانيا، إلى ناشطي المناخ ومن أجل التوعية بقضايا مثل حقوق المثليين والإساءات الجنسية وغيرها من القضايا الاجتماعية، لكن حضورها في الدول الغربية من ناحية الطرح ومن ناحية النقاشات العامة، يظهر مختلفاً بشكل كلي عما يلاحظ في الشرق الأوسط المحافظ، وفي سوريا في صورة رجل دمشق العاري اليوم.
يعني ذلك، أن انعدام الشفافية في سوريا وغياب أصوات مستقلة ومساحات للتعبير أمام الأفراد، تجعل من شبه المستحيل التوصل إلى قصة الرجل الحقيقية، وبالتالي فالحكم عليها يأخذ شكل تكهنات وأحكام مسبقة. الموالون الأشد ولاء للنظام قالوا أن الفيديو مفبرك مثلما قالوا أن فيديوهات المظاهرات ضد نظام الأسد طوال سنوات ثورة العام 2011، مزيفة. والمعارضون قالوا أن النظام يقود شعبه إلى الجنون، فيما ضحك قسم ثالث من الصورة "العيب"، وقسم رابع استغفر الله من باب أن القيامة اقتربت مع رفض واسع لنشر الفيديو لأنه "مخل بالآداب". والأسوأ هو من يشد على يد السلطة التي تقوم تعتقل وتنكّل بأفراد يبدون مستضعفين، من دون حتى المطالبة بسماع قصتهم.
ومهما كانت حقيقة القصة، فإن النقاشات حولها، سواء كانت متعاطفة مع الرجل أم منتقدة له، تصب كلها في نقطة واحدة هي انتشار العداء للجسد في دول الشرق الأوسط، لأن التعاطف نفسه يأخذ صورة الشفقة الاستعلائية. ويحضر ذلك العداء في القوانين الصارمة الخاصة باللباس في دول مثل إيران والسعودية، والحجاب الإجباري تقليدياً للفتيات في المجتمعات المحلية، مع أو من دون قوانين رسمية بهذا الخصوص، وفي حذف المشاهد التي تظهر فيها ساق عارية هنا أو يد مكشوفة هناك، في المسلسلات والأفلام، وفي تلطيخ الرقابة مجلات الأزياء باللون الأسود قبل عقود.
وكل ذلك يظهر كيف يتحكم مفهوم الفضيلة بالأفراد على صعيد يومي، من اختيار اللباس بشكل يوافق المجتمع المحيط، إلى الحق في الإجهاض، إلى المثلية والعلاقات الجنسية بالتراضي والإفطار أو الصيام، وغيرها من النقاط التي يشكل الجسد جوهرها.
وفيما تختلف القوانين حول العالم بالنسبة للتعري، إلا أن موضوع امتلاك الجسد من أساسه يشكل قضية خلافية هنا. فبينما ينص الدستور الفرنسي مثلاً على حرية الجسد، وحرية التصرف فيه، تنتشر سرديات في العالم العربي والإسلامي لا ترفض ذلك المبدأ فقط، بل تكفّره أيضاً لدرجة يصبح معها الجسد معادلاً للخطيئة. وفيما ينظر بعض المجتمعات إلى الجسد كنوع من حرية التعبير، فإن حرية التعبير بحد ذاتها قيمة تتعرض للقمع المتلاحق من قبل السلطة، خصوصاً في سوريا التي ترقد في المراكز الأخيرة بشأن حرية الصحافة وحرية الإنترنت وحرية التعبير الفردية في المؤشرات الدولية ذات الصلة.
ومنذ العام 2021 صنف القضاء الفرنسي الاحتجاج من خلال التعري في خانة حرية التعبير، بعد شكاوى قضائية تقدم بها نواب من اليمين المتطرف. كما حضر العري في احتجاجات داخل البرلمان البريطاني إبان حقبة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن البحث عن حالات مماثلة في العالم العربي ينتهي بقراءة مقالات ومنشورات في مواقع التواصل والمنتديات البدائية، تتحدث عن قيم الشرف والعفة والعيب والحرام، لا أكثر، مع تصنيف الجسد "واحداً من الشرور"، خصوصاً إن كان الحديث يدور عن جسد المرأة.
في هذا السياق يمكن تفهم الصدمة التي أحدثها فيديو الرجل العاري في دمشق، كما يمكن تفهم النظريات الأكثر جموحاً والأكثر عاطفية أيضاً، لأن المشهد الغامض وغير المألوف يصبح قالباً جاهزاً لرواية القضايا الشخصية والعامة التي لا يستطيع الأفراد البوح بها مباشرة. كما أن الاعتقال الفوري للرجل يظهر المدى التي تذهب إليه السلطة من أجل حماية صورتها العامة، التي تقدم النظام على أنه حام للمجتمع التقليدي من قيم الفردية والليبرالية، مع تأطير الرجل على أنه متعاط للمخدرات ومنتهك للحشمة بشكل يستدعي التدخل العاجل، وهو ما لا يحدث في قضايا أخطر، مثل الفساد والسرقات العامة والبلطجة وسلطة الميليشيات ونفوذ المسؤولين وغيرها.
وفي حالتي رجل حلب ورجل دمشق على حد سواء، فإن التصرف الفردي بالجسد بطريقة متطرفة عبر بتره أو كشفه، يبدو أقرب إلى صرخة طلباً للمساعدة مع تعاظم الشعور باليأس في بيئة مغلفة تماماً بالقمع، تماماً مثلما كانت شرارة الربيع العربي في تونس مماثلة بحرق محمد البوعزيزي نفسه العام 2010. الفارق الوحيد ربما يتمثل في رد الفعل التالي، لأن الأنظمة العربية عموماً في دول الربيع العربي عادت أقوى وأسوأ مما كانت عليه من ناحية القمع، من سوريا إلى تونس ومصر.
وحتى لو لم يكن تعري الرجل سوى رد فعل لحظي وليس احتجاجاً مخططاً له، كما يحدث في الدول الغربية عند الحديث عن احتجاجات بشأن قضايا ملحة مثل التغير المناخي، فإن الفعل نفسه يبدو رمزياً من ناحية التخلي عن كافة الأقمشة والأقنعة والوقوف تحت الشمس بصورة الإنسان البدائي المجرد من أي صفة أخرى لاحقة له، بشكل يعكس الحاجة الملحة للتغيير الجذري والشامل في سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم وجود متنفس للأفراد كي يعبروا عن أنفسهم سوى بالانفجار الغاضب بهذا الشكل.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها