الأربعاء 2024/02/07

آخر تحديث: 16:23 (بيروت)

حُكم العجائز

الأربعاء 2024/02/07
حُكم العجائز
الرئيس بايدن، 81 عاماً، وما زال مرشحاً.. وكلينتون كان ابن 46 عاماً عندما انتُخب رئيساً
increase حجم الخط decrease
مرة أخرى "زل لسان" الرئيس الأميركي جو بايدن، الساعي للتمسك بكرسي الرئاسة في المكتب البيضاوي مع بلوغه 81 عاماً، وهذه المرة خلط بين الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، والراحل فرانسوا ميتران الذي توفي منذ 28 عاماً! فيما يمكن تتبع عشرات الحالات المماثلة التي أثارت أسئلة حول أهلية بايدن للحكم طوال السنوات الأربع الماضية، ليس فقط من خصمه الأساسي في الانتخابات المقبلة، دونالد ترامب، لأن الأخير نفسه يبلغ من العمر 77 عاماً، ولا من أنصاره الجمهوريين، بل حتى من الديموقراطيين أنفسهم.

ولا شيء يظهر مدى تقدم الطبقة السياسية الناشطة حالياً في الولايات المتحدة، سوى ظهور الرئيس السابق بيل كلينتون في البيت الأبيض أوائل العام 2023 للاحتفال بالذكرى الثلاثين لقانون الإجازة الطبية. حينها كان كلينتون يبلغ من العمر 77 عاماً، أي أصغر من بايدن بثلاث سنوات فقط، لكن الفارق أنه ترك منصبه في البيت الأبيض قبل ثلاثة عقود كاملة، إذ كان عمره 46 عاماً فقط عند انتخابه رئيساً. فيما تظهر نظرة على لائحة أعمار الرؤساء الأميركيين منذ جورج واشنطن العام 1789، أنهم جميعاً لم يكونوا قد تجاوزوا الـ69 من العمر لدى انتخابهم، باستثناء بايدن وترامب..


وليس غريباً بالتالي أن يظهر استطلاع رأي أجرته "جامعة مونماوث" في تشرين الأول/أكتوبر الماضي ونقلت نتائجه وسائل إعلام الأميركية، أن نحو ثلاثة أرباع الناخبين يعتقدون أن بايدن مُسنّ جداً لتولي مناصب سياسية، بموازاة اعتقاد نصف الناخبين أن ترامب أيضاً أكبر (سناً) من أن يكون رئيساً. كما تظهر بيانات مكتب الإحصاء الفيدرالي، أن متوسط الأعمار في الولايات المتحدة يبلغ 38.9 عاماً، لكن معدل الأعمار في مجلس النواب بالكونغرس يبلغ 58 عاماً وفي مجلس الشيوخ 64 عاماً.

ويطلق على نموذج الحكم هذا تسمية حكم الشيوخ أو العجائز "Gerontocracy"، وهو شكل من أشكال حكم الأقلية التي يخضع فيها كيان ما لحكم قادة أكبر عمراً بكثير من معظم السكان البالغين. ورغم وجوده في ثقافات مختلفة، فإن جذوره كفكرة سياسية تعود إلى اليونانيين القدماء الذين آمنوا بفكرة أن الرجل الأكبر سناً يحكم، وعلى الأصغر سناً أن يخضع. وحضر النموذج بشكل خاص في الدول الشيوعية والديكتاتوريات العسكرية التي تبدأ فتية وتشيخ، إضافة إلى الدول التي يحكمها رجال الدين، مثل إيران، كما يمكن تلمسه في الهيئات الدينية مثل الفاتيكان والأزهر.

لا إجابات حاسمة حول سبب هذا التحول في أعمار السياسيين الأميركيين، الذي يعمل الكثير منهم في السياسية ضمن مناصب رفيعة منذ عقود وبلا توقف. بعض الكتابات الأميركية يشير إلى الجيل المولود بعد الحرب العالمية الثانية والجيل إكس، يرون في التقاعد موتاً. وفيما تزداد نسبة العازفين عن التقاعد بين الأميركيين، عاماً بعد عام، بسبب أعباء اقتصادية، فإن ذلك لا ينطبق على السياسيين ذوي النفوذ، وبعضهم من أصحاب الملايين، بل تُرفع أسباب مثل الطموح الشخصي وغياب البدلاء الذين يمكنهم ملء الفراغ، في نظر أولئك السياسيين أنفسهم، وصولاً إلى الغرور.

وفيما يدعو سياسيون، مثل المرشحة الجمهورية للرئاسة، نيكي هيلي (52 عاماً)، إلى وضع حد لأعمار الساعين للوصول للبيت الأبيض، أو إجراء فحوص أهلية طبية لقدراتهم العقلية على الأقل، فإن آخرين مثل عضو الكونغرس إيريك سوالويل يتحدثون عن وجود عقبات اجتماعية ضمن السيستم السياسي الأميركي نفسه، تمنع الطبقة السياسية من تجديد نفسها مثلما كان الحال في السابق. وبحسب سوالويل، فإن الانخراط في السياسة مكلف للغاية، كما أنه يستهلك وقتاً طويلاً، ما يعني الابتعاد عن العائلة والأطفال مثلاً، وكلها تضحيات تنفر الشباب من العمل السياسي.

وقال كيفن مونغر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية بنسلفانيا، في تصريحات صحافية، أن مشكلة حكم العجائز باتت أكثر بروزاً من أي وقت مضى، وأنه لا يتوقع أصلاً حصول تغيير في أعمار السياسيين قبل بداية العقد المقبل على الأقل. وفيما يقول 69% من الديموقراطيين أنهم قلقون من حالة بايدن الصحية، إلا أن 88% منهم مستعدون لدعمه والتصويت له لمجرد الرغبة في عدم وصول ترامب للبيت الأبيض، والعكس صحيح في المعسكر الجمهوري أيضاً، ما يظهر مدى الانقسام الحزبي الذي وصلت إليه الولايات المتحدة، والذي يخفي وراءه انقسامات فكرية وثقافية، مع ميل الجمهوريين بشكل متزايد نحو أفكار محافظة مثل معاداة المثليين جنسياً وحريات النساء والحق في الإجهاض ومعاداة المهاجرين واللاجئين والملونين، وتقديم الديموقراطيين أفكاراً أكثر ليبرالية، رغم أنها قد لا ترتقي أصلاً إلى حد تبني ثقافة "الووك" التي قد يرفض الأفراد بموجبها السياسيين من الحزبين معاً.

هذا النوع من الانقسام قد يكون سبباً لبروز سياسيين من خارج الطبقة السياسية التقليدية، على غرار ترامب الذي كان أول رئيس أميركي على الإطلاق يصل للبيت الأبيض من دون خلفية في السياسة أو الجيش. لكنه لم يقم على سبيل المثال بإنشاء تيار سياسي متكامل، على غرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وصل العام 2017 إلى الأليزيه، بل قام بصبغ الحزب الجمهوري بلونه إلى درجة بات من غير الممكن فصلهما عن بعضهما البعض اليوم!

وفيما يبحث الأفراد في الدول الديموقراطية عن قادة ملهمين، فإن ذلك البحث قد يعزز فقط فكرة الإحباط من السياسيين الكاذبين والنخب التي تبحث عن مصالحها الخاصة الضيقة. في حالة ماكرون، فقد برز كقائد ملهم لفترة وجيزة في المخيلة الشعبية العام 2017، كونه اسماً يجسد السياسة الجديدة بعيداً من الأحزاب التقليدية مع فقدان الشعب الفرنسي ثقته في التيارين الرئيسيين اليميني واليساري بعد ضعف أداء الرئيسين اليميني نيكولا ساركوزي (2007 - 2012)، واليساري فرانسوا هولاند (2012-2017). لكن الإعجاب يبدو مقوضاً بواقع أن ماكرون يبدو الرئيس الأضعف شعبية في تاريخ الجمهورية الخامسة على الإطلاق، حيث صوّت له 20 مليون فرنسي، في مقابل 10 ملايين صوتوا لمنافسته ماري لوبان، فيما امتنع 16 مليوناً عن التصويت بطريقة أو بأخرى. وكان الأمر أسوأ في الانتخابات الثانية التي تجاوز فيها ماكرون لوبان بصعوبة، ما يعني وجود مجتمع منقسم أكثر من أي وقت مضى.

ومع تغيير لهجة حملة ترامب الانتخابية، من كونه رجل أعمال بعيد عن السياسة بشكل يجذب الناخبين الراغبين في التغيير، نحو الحديث عن كونه المخلص لأميركا بوصفها بلداً "عرقياً مسيحياً يهودياً أبيض بشكل أساسي" بحسب وصف مساعدته المؤمنة بتفوق العرق الأبيض، لورا لومر، فإن من تُطرح أسماؤهم كناشطين في الفضاء السياسي غير التقليدي، يقدمون خطابات تتجاوز ذلك، مثل ما يقدمه بين شابيرو، أحد الأصوات التي برزت مؤخراً وتميل لتقديم الخطاب السياسي المتطرف عبر الإنترنت وفي تجمعات جماهيرية وعبر موقعه الإلكتروني "ذا دايلي واير" الذي يلقى ترويجاً من أغنى رجل في الكوكب إيلون ماسك.

كل ذلك يؤثر في خلل الطبقة السياسية الأميركية بشكلها الحالي وعجزها عن ضخ دماء جديدة تواكب العصر ولا تقدم الخطاب المتطرف. فيما يشكل الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي عاملاً إضافياً في خلق فجوة بين الناخبين والسياسيين بوصفهم طبقة طفيلية، وهو ما يتضح بأرقام العازفين عن التصويت في الديموقراطيات الغربية عموماً، لدرجة الحديث هذا العام عن ضرورة الاستعانة بنجمة البوب تايلور سويفت من أجل تشجيع الناس على التصويت.

ويربط الباحثون بين العزوف عن التصويت كموقف سياسي حاسم لا يقل عن انتخاب مرشح دون آخر، وبين صعود الإنترنت. وتفاقمت المشكلة مع بروز السوشيال ميديا كمصدر رئيسي للمعلومات، ما أفقد مصادر المعلومات التقليدية قوتها. والأسوأ ربما، هو أن خوارزميات مواقع التواصل ومحركات البحث الكبرى، تعرض على الأفراد مواضيع وقصصاً مرتبطة بهم وباهتماماتهم، وتجعلهم بالتالي يعيشون في فقاعات صغيرة من دون خلق اهتمام بما يجري حولهم، ويصبحون بالتالي غير مدركين للمشاكل من حولهم إلا عند تعرضهم اللحظي لها، ويفقدهم ذلك بالتالي الرغبة أو الدافع للانخراط في السياسة بشكلها السائد، سواء من ناحية التصويت أو من ناحية الرغبة في امتلاك مسيرة مهنية في السياسة.

وبحسب مركز "بيو" للأبحاث، فإن العزوف الأميركي عن الاهتمام بالسياسة، يرتبط بحقيقة أن الأثرياء وكبار السن يهيمنون على السياسة الأميركية، لأنهم يمارسون اللعبة السياسية بشكل جيد، ويمتلكون الموارد لذلك في بلد تبرز فيه مسائل مثل العنصرية والفجوات العرقية والنظام التعليمي المتحيز وغيرها. وجاءت مواقع التواصل لتعزيز ذلك الشعور وجعل الأفراد يهتمون حصراً بالقضايا التي تؤاتي أمزجتهم.

أدى ذلك لإدراك كثير من الأشخاص أن الطبقة السياسية الحالية والأحزاب الكبرى لا تمثلهم بقدر ما تريد استغلالهم عبر الكلمات المنمقة والشعارات الأنيقة، ليس فقط في الولايات المتحدة بل على ضفتي الأطلسي، وهو ما توصلت إليه دراسة مركز "Survation" البريطاني حول التصويت بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي مثلاً. علماً أن المملكة المتحدة شهدت عزوفاً متزايداً عن التصويت منذ العام 1992 حينما بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات العامة 77.7%، لتبلغ في العام 2015 حداً منخفضاً تاريخياً عند نسبة 66.1% فقط، ما يعني أن نحو ثلث البريطانيين يعزف عن التصويت.

ويشير استطلاع لمركز "بيو" إلى أن أولويات الأميركيين تختلف بحسب الفئات العمرية عندما يتعلق الأمر بالسياسة المحلية والخارجية. مثلاً، يركز الأكبر سناً على قضايا تعزيز الجيش والسيطرة على الهجرة، بينما تركز الأجيال الأصغر سناً على تغيير المناخ، ويدعون للحد من دور الجيش في السياسة الخارجية. ويتوازى ذلك مع الأفكار نفسها التي يحملها السياسيون المتقدمون في السن، والتي تماثل عموماً السائد ضمن فئتهم العمرية، ما يخلق فجوة إضافية تزيد من النفور تجاه السياسيين وتعزز المشكلة القائمة أصلاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها