الجمعة 2024/02/02

آخر تحديث: 16:55 (بيروت)

"إتس أوكي": إليسا العالقة في تروما "الشرشف"

الجمعة 2024/02/02
"إتس أوكي": إليسا العالقة في تروما "الشرشف"
increase حجم الخط decrease
في الوثائقي الخاص بها عبر "نتفليكس"، تحت عنوا "إتس أوكي"، لا تقدم المغنية اللبنانية إليسا، صورة النجمة القوية المستقلة مثلما تقول وتكرر وتدعي طوال 120 دقيقة، بل تبدو دفاعية في دور الضحية منذ اللحظات الأولى التي تظهر فيها انتقادات طاولتها عبر مسيرتها الفنية، من النشاز إلى عدم القدرة على الغناء على المسرح لوقت طويل، وهي انتقادات طبيعية لأي فنان وتحضر في الإعلام العالمي تجاه نجوم عُرفوا بمقدراتهم الصوتية الجبارة مثل ويتني هيوستن ومارايا كيري وكريستينا أغيليرا.

تسمي إليسا كل كلمة سلبية بحقها تنمراً، ويمكن تفهم ذلك المصطلح بالنظر إلى التعليقات المقيتة التي طاولتها لسنوات، على شكلها وجسدها، لا على عملها الفني. ما لا يمكن تفهمه هو الرد بتلك الكلمة على الصحافة الناقدة والسكيتشات الكوميدية التي تحدثت عن إليسا، بما في ذلك ما قدمه الكوميدي اللبناني باسم فغالي عنها مرات عديدة، مع الإشارة إلى أن استخدام كلمة التنمر بهذه الطريقة العشوائية بات شائعاً، ليس فقط من طرف المشاهير الذين لا يملكون الشجاعة للقيام بتصرف ما من دون الالتفات لما يقال عنهم، بل أيضاً من الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية، كالنظام السوري الذي يصف بشكل كوميدي انتقادات المواطنين لملفات مثل انعدام الكهرباء وارتفاع الأسعار بأنها تنمر على الموظفين الرسميين بشكل كاف للملاحقة القانونية.

مقطع فغالي الذي أدرجته إليسا في مقدمة الوثائقي، يعود لأواخر التسعينيات، وفيه سخرية من فكرة "الشرشف" الذي ارتدته المغنية الصاعدة حينها في أول كليباتها الغنائية مع راغب علامة، وحولها بسرعة إلى نجمة في العالم العربي بعد سنوات من النشاط الفني الذي لاقى نجاحاً محدوداً. كانت المنطقة العربية حينها تشهد تحولاً، مطلع الألفية مع انتشار القنوات الفضائية وضخ الدماء الجديدة في الإعلام والفضاء العام. وكانت إليسا مع نانسي عجرم، وبعدهما هيفاء ووروبي، وبدرجة أقل شيرين عبد الوهاب مويريام فارس والمعتزلة أمل حجازي، وأخريات، يقدمن صورة جديدة لموسيقى البوب، بعيداً عما كان سائداً خصوصاً من طرف الفنانات النساء.


ورغم أن ما قدمته تلك الأسماء في منطقة محافظة دينياً واجتماعياً، يعتبر ثورياً، إلا أنه قوبل بهجوم وانتقادات من قبيل نشر الفساد والرذيلة والانحلال. ومنعت دول مثل سوريا مثلاً، إليسا وهيفاء وهبي، من إقامة حفلات في البلاد بتهمة محاربة الانحطاط الفني، رغم أن أغانيهما اليوم تعتبر من كلاسيكيات البوب العربي. كما أن النظرة إلى ما قدمنه بصرياً، في "أخاصمك آه" لعجرم أو "بدي دوب" لإليسا أو "أنا هيفا" لوهبي أو "ليه بيداري كده" لروبي، لم يكن فاحشاً ولا فاسقاً مثلما كان يتكرر في الشوارع والبيوت والتلفزيونات العربية بحقهن. وحتى لو كان كذلك بنظر أفراد، فإن التشهير والتحريض عليهن بوصفهن "نموذجاً سيئاً للفتاة العربية الصالحة" ليس مبرراً بأي شكل من الأشكال.

كل تلك الأسماء لم تجد ربما الدعم العام لامتلاك الجرأة للقول أنهن فعلاً كن يقدمن الإغراء أو على الأقل يمتلكن الحق في التصرف بأجسادهن وإعطاء تلك القوة للنساء في محيطهن، لأن ذلك لا يجب أن يكون تهمة أصلاً ضمن مجتمعات طبيعية، من منطلق أن التعبير عن النفس يشمل التعبير عن الجسد بوصفه أداة للتواصل مع الطبيعة والعالم والآخرين.

بالعكس كانت النجمات الصاعدات تواجه الاتهامات خصوصاً من طرف المغنيات الأكبر منهن في السن، اللواتي قلن عنهن أنهن مجرد نجمات إغراء أو أنهن لسن مطربات وأن شهرتهن زائفة ولحظية وغير ذلك من اتهامات، تُظهر كيف يتم تدوير مفاهيم الشرف والعفة في المجتمعات المحلية، بشكل يتكثف لدى العاملات في الفن من ممثلات ومغنيات، كنساء تسلط عليهن الأضواء، ويشكلن نموذجاً لما يحصل مع آلاف النساء المهمشات على صعيد يومي.

ومع مرور الوقت تراجعت كل تلك الأسماء عن خطها الأول، وباتت تقدم موسيقى أكثر محافظة ومراعاة للآداب العامة وبعيدة عن الصدمة البصرية. وباتت الجرأة مقتصرة على تقديم مواضيع اجتماعية لا يجب أن توصف بأنها جريئة أصلاً، بقدر ما هي تجارب شخصية مغيبة عن البوب العربي، مثل الحديث عن العنف الأسري أو مرض السرطان، وصولاً للتعبير عن مواضيع سياسية في منطقة جغرافية لا توجد فيها هوامش للمعارضة والتعبير السياسي، وكلها كانت حاضرة في أغان لإليسا خلال السنوات العشرين الأخيرة.

وربما كان النمط الذي أفرزته الصحافة الفنية الصفراء مثل "الجرس" في العالم العربي راسخاً حتى في البرامج الحوارية وعلى الشاشات العربية، التي كان مقدموها لبنانيين غالباً مثل نيشان ديرهاروتيونيان وطوني خليفة. ومازال بالإمكان متابعة جلسات تحقيق مروعة مع إليسا وزميلاتها في أرشيف الفضائيات العربية، عبر "يوتيوب"، يظهر فيها المذيعون كجلادين يقدمون "رأي الناس" بشكل اتهامات مبطنة أو صريحة، مع كثير من الغمز واللمز إلى الجنس والتعري والرذيلة والدعارة وغيرها، لمجرد ارتداء فستان جميل في حفلة أو الرقص في فيديو كليب، لأن "بنت العيلة المحترمة لا تقوم بمثل تلك التصرفات"! وكلها كوارث مازالت تحصل حتى اليوم على الشاشات حتى من قبل الإعلاميين الذين يقدمون أنفسهم على أنهم "راقون" و"مثقفون" مثل رابعة الزيات التي تقدم أكثر أنواع الخطاب المحافظ والجارح بحق ضيوفها من ممثلين ومشاهير.


في ضوء هذه التراكمات، يمكن تفهم لعب إليسا لدور الضحية الدفاعي مثلما تظهر في وثائقي "إتس أوكي" خصوصاً بعد أزماتها الصحية والمهنية والعاطفية التي كشفت عنها بشكل جعلها تشعر أن عالمها الذي سعت جاهدة إليه، انهار في لحظة أمام عينيها. لكن الغريب أنها لطالما قالت أنها ترفض أن تلعب دور الضحية، مهنياً على الأقل، إلى درجة أنها ارتدت "الشرشف" مرة أخرى للترويج لألبومها "صاحبة رأي" العام 2020 وكتبت حينها: "أول مسيرتي كانت صعبة بسبب الانتقادات، بس تخطيت كل شي بقوة ولأنو أبويا علّمني ما خافش ودايماً أواجه قدري. اليوم عم بحتفل بعشرين سنة نجاح الحمدلله وضميري مرتاح. ليش؟ لأنو بدل ما كون ضحية، قرّرت كون صاحبة رأي".

هذا التناقض يتوازى مع مناسبة الوثائقي نفسه الذي يشكل ترويجاً لألبوم إليسا الجديد وتنتجهه لنفسها بعيداً من شركة "روتانا" وكأن ذلك معجزة غير مسبوقة في المنطقة العربية، رغم ان نجوماً سبقوها إلى ذلك منذ مدة وحققوا نجاحاً واسعاً، من نوال الزغبي إلى سميرة سعيد ولطيفة التونسية، مع تراجع الإنتاج العربي عموماً وتغير صناعة الموسيقى في زمن السوشال ميديا والمشاكل التي طرحتها "روتانا" وقضت على أي منافسة لها في السوق، منذ أزمة فندق "ريتز كارلتون" في الرياض العام 2017. ولم تقدم إليسا حتى اليوم سوى أغنية منفردة بعنوان "بتمايل على الـBeat" قبل أن تعود إلى أحضان "روتانا" إثر جذب وشد، حيث تعمل الشركة على توزيع ألبومها الجديد.

إلى ذلك، تبدو إليسا وكأنها تريد إيصال فكرة واحدة لمتابعيها عن مدى انتمائها للعائلة وتقديسها للأسرة التي تجتمع معاً تحت سقف واحد، وهي فكرة، رغم كونها إنسانية ولطيفة، إلا أنها تلعب على الوتر المحافظ في عصر باتت فيه قيمة العائلة محددة للنقاشات السياسية ليس فقط في الدول الغربية التي تشهد نقاشات قائمة على الهوية يقودها اليمين المتطرف بشكل يعادي الحريات الفردية وحقوق المرأة والمثليين والأفراد من مجموعات عرقية مختلفة، بل يصل صداها إلى الشرق الأوسط حيث القيم العائلية متجذرة وتمنع الأفراد منذ سن صغيرة من تكوين شخصيات مستقلة أو استكشاف ذواتهم.

ولطالما كان نجوم البوب العالميون، خصوصاً في الفترة التي ظهرت فيها إليسا وزميلاتها مطلع الألفية، مثل كريستينا أغيليرا وبريتني سبيرز، وقبلهما مادونا وآخرون، يميلون لتقديم الأفكار الفردية، لا الاجتماعية والعائلية، من دون أن يعتذروا/يعتذرن عن عروض تحتفي بالجسد، مهما كانت الانتقادات. مادونا مثلاً أصدرت أغنية "هيومن نايتشر" وكررت فيها "أنا لست آسفة" رداً على الانتقادات التي أتتها حتى من طرف الفاتيكان نفسه بعد إصدار ألبوم "إيروتيكا" مطلع التسعينيات، وأغيليرا التي كانت أغنيتها "ديرتي" العام 2002 شديدة الجنسانية قالت مرارأً أنها فخورة بها لأنها احتفاء بأن يكون الفرد في عمر الـ21 عاماً، وكررت في أغنية "ستريبد" حينها: "آسفة أنا لست عذراء. آسفة أنا لست فتاة ساقطة"، للرد على كل من يضعها في قوالب جاهزة، كفتاة سيئة السمعة أو فتاة عاقلة وطيبة.

بعكس ذلك تهاجم إليسا المنتقدين والكلمات المكتوبة في مواقع التواصل، التي تشكك في نقاء صوتها بوصفها "فنانة استديو"، أو تتساءل إن كانت فعلاً مريضة عند إغمائها على المسرح، هي التي حاربت مرض السرطان لشهور طويلة في السر من دون أن تفصح عنه، وذلك حقها بالطبع من باب أن المرض حالة شخصية جداً حتى بالنسبة للمشاهير. لكن ما لا تمتلك إليسا حقه هو محاسبة الناس على حيرتهم وتساؤلهم في ما إذا كانت تحاول استدرار التعاطف الشعبي وتحصيل دعاية سريعة المفعول، هي التي لم تكن شفافة بهذا الخصوص منذ البداية ولم تصدر تصريحاً واحداً عن حالتها الصحية إلا بعد شفائها وإطلاقها فيديو كليب لأغنية "إلى كل اللي بيحبوني" العام 2018 صورت فيه رحلة علاجها بشكل ملهم للملايين في المنطقة العربية.

لا أحد يشكك في نوايا إليسا وعواطفها الطيبة طوال الفيلم، ولا في كل ما قدمته من أغنيات جميلة ومن تجديد للموسيقى العربية منذ مطلع الألفية، لكن لا يمكن سوى الشعور بخيبة الأمل مع تتالي دقائق المشاهدة، ربما لأنها تطرح نفسها طوال الفيلم ضمنياً كصوت متمرد غير نمطي خارج عن السيستم القائم في المنطقة العربية، سياسياً وثقافياً، إلا أنها تبدو في المجمل مع نهاية المشاهدة مرآة لذلك السيستم وجزءاً لا يتجزأ منه ونتيجة حتمية لوجوده، وذلك محزن ومحبط في آن معاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها