الأربعاء 2024/01/31

آخر تحديث: 16:19 (بيروت)

"غريزيلدا": تاجرة المخدرات التي كان بابلو إسكوبار يخشاها

الأربعاء 2024/01/31
"غريزيلدا": تاجرة المخدرات التي كان بابلو إسكوبار يخشاها
increase حجم الخط decrease
تؤدي النجمة الكولومبية-الأميركية، صوفيا فيرغارا، دور تاجرة مخدرات وزعيمة عصابة إجرامية  في سلسلة "غريزيلدا" المستوحاة من قصة حياة "الأم الروحية للكوكايين" غريزيلدا بلانكو التي روعت ميامي ونيويورك في سبعينيات وثمانيينات القرن الماضي، ليس فقط بتجارة المخدرات بل بالعنف ومئات جرائم القتل، لكن الجريمة الوحيدة والحقيقية قد تكون عدم اكتساح فيرغارا لموسم الجوائز المقبل في فئة التمثيل.

فيرغارا (51 عاماً) التي اشتهرت تحديداً بلعبها دور البطولة في السلسلة الكوميدية "مودرن فاميلي" بين العامين 2009 و2020، رُشحت لجوائز "غولدن غلوب" و"إيمي" وغيرها، كما باتت واحدة من أعضاء لجان التحكيم في برنامج المواهب "أميركاز غوت تالنت" منذ العام 2020. ورغم مكانتها في هوليوود، يمكن القول أنها عانت التنميط والتهميش، مثل معظم النساء العاملات في صناعة الترفيه اللواتي يقدمن شهادات مستمرة عن طريقة سير الإنتاج التي تستبعد النساء من تصدر الشاشات أو تقديم أفكار جديدة أو حتى العمل لأسباب مثل التقدم في السن أو الأصول العرقية وغير ذلك.

وفي "غريزيلدا" التي شاركت فيرغارا في إنتاجها لصالح "نتفليكس"، تظهر الممثلة بعيدة من جمالها وأنوثتها الطاغية، خصوصاً بعد العمل المتقن لفريق التجميل في العمل الذي أضاف إلى وجهها وجسدها تغييرات تجعل تمييزها في بعض المشاهد صعباً، خصوصاً مع اندماجها في أداء شخصية حقيقية. حتى لهجة فيرغارا، التي لطالما وصفت بأنها مثيرة، تبدو بعيدة عن تلك الصورة النمطية للنساء اللاتينيات العاملات في صناعة الترفيه.

قصة المسلسل المكون من 6 حلقات مستوحاة من قصة حياة بلانكو (1943-2012) التي كانت من المؤسسين لتجارة الكوكايين بين كولومبيا والولايات المتحدة، ما جعلها واحدة من أنجح المجرمين عبر التاريخ من ناحية الإيرادات، حيث كانت شبكة التوزيع التي تشرف عليها تضخ لها نحو 80 مليون دولار شهرياً، قبل إلقاء القبض عليها العام 1985 في نهاية حقبة "حرب المخدرات في ميامي"، ليحكم عليها بالسجن 15 عاماً و20 عاماً في قضيتين منفصلتين، تشمل الأولى الاتجار بالمخدرات، والثانية جرائم القتل.

وتبدأ كل حلقة باقتباس منسوب إلى تاجر المخدرات الأشهر بابلو أسكوبار، يقول فيه أنه لم يخف طوال حياته سوى من رجل واحد، "وهذا الرجل كان امرأة اسمها غريزيلدا بلانكو"، وفيما لا يمكن التأكد من دقة التصريح في الحياة الواقعية، لأن المسلسل يوصف بأنه "خيالي يستند إلى أحداث واقعية"، إلا أنه يعطي المشاهد لمحة فورية عما ينتظره من عنف وقسوة وعبقرية إجرامية، علماً أن المسلسل لا يميل إلى تقديم صورة رومانسية عن شخصية إجرامية أو تقديمها بصورة إنسانية، على غرار مسلسلات أخرى حظيت بشهرة واسعة مثل المسلسل التي تناول حياة القاتل المتسلسل جيفري دامر في "نتفليكس" العام 2022. ولعل هذا ما عرّض المسلسل الجديد لانتقادات من ابن غريزيلدا الوحيد المتبقي على قيد الحياة، من بين 4 أنجبتهم وعانوا حياة الجريمة التي عاشتها. فقد رفع مايكل دعوى قضائية ضد العمل لعدم إشراكه في المسلسل من جهة، ولعدم تقديم والدته بصورة إنسانية أكثر، من جهة ثانية.

ونسخة غريزيلدا في المسلسل مثيرة للاهتمام، هي امرأة تعمل وسط عالم ذكوري في حقبة زمنية محددة لم تكن فيها النساء بالحرية والحقوق التي يحظين بها اليوم، وتعاني السخرية والشتائم الجنسية والتحقير المستمر من تجار المخدرات الذين تتحداهم في بداية تأسيسها لمافيا المخدرات الخاصة بها بعدما قتلت زوجها وشريكها السابق في الجريمة. وحتى بعد نجاحها وتكوينها إمبراطورية الكوكايين، بقيت تواجه التعليقات التي تطالبها بالعودة إلى المطبخ حيث مكانها كربة منزل وأمّ، أولاً.


هذا العرض للأدوار الجندرية من زاوية مافيا الجريمة، مبهر، خصوصاً عندما يتوازى مع قصة المحققة جون هوكينغز التي تعمل لصالح شرطة ميامي وتلاحق غريزيلدا مهووسة بكونها امرأة تتحدى عالم الذكورة السام من حولها، خصوصاً أنها تعاني المشاكل نفسها التي تواجهها غريزلدا بين زملائها، وهم يحتقرون أفكارها ويطالبونها بتحضير القهوة لهم والترجمة من دون أن تمارس عملها لمجرد أنها امرأة.

ولا يعتبر ذلك مجرد صحوة نسوية تحاول "نتفليكس" وهوليوود نشرها قسراً، مثلما يكرر المنتقدون خصوصاً من الأصوات المحافظة. بل هو تصوير لواقع مازال مظلماً، رغم التقدم النسبي، خصوصاً في الدول الغربية. وللدلالة على ذلك يمكن النظر إلى تقرير خاص بالأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي، قالت فيه المنظمة أن تحقيق المساواة بين الجنسين بحلول العام 2030 أمر مستحيل تحقيقه بسبب تحيزات متجذرة ضد المرأة في أنحاء العالم، في الصحة والتعليم والتوظيف وأروقة السلطة.

هذا التمييز حاضر بشدة في هوليوود وصناعة الترفيه الأميركية عموماً، ويمكن النظر لشهادات ليس فقط من أسماء مغمورة، بل من أكبر النجمات مثل مادونا ونيكول كيدمان وفيولا دايفز وميريل ستريب وكريستينا أغيليرا وكاثرين هيغل وكريستين ستيوارت، اللواتي تحدثن بصراحة عن إقصائهن من العمل أو تعرضهن للتنمر والشتائم لأسباب مثل التقدم في السن أو لون البشرة أو الطول أو الوزن أو التوجه الجنسي، وغير ذلك.

واليوم تعمل نجمات كثيرات على إنتاج قصص خاصة بهن، من أجل تقديمها لمنصات البث مثل "نتفليكس" و"أمازون برايم" و"هولو". فكيدمان أنتجت قبل سنوات مع زميلتها ريس ويذرسبون السلسلة الضاربة "بيغ ليتل لايز"، وهيغل أنتجت سلسلة "فايرفلاي لاين" التي أدت فيها دور البطولة العام 2021، وهو ما تقوم به فيرغارا اليوم في "غريزيلدا"، بموازاة تمجيد صناعة الترفيه حتى اليوم لقصص الرجال البيض الموجهة لجمهور من الرجال البيض بوصفهم القوة الاقتصادية المحركة للاقتصاد على صعيد العائلات.

يظهر ذلك بوضوح في الاحتفاء بفيلم "أوبنهايمر" الذي يكتسح موسم الجوائز الأميركي الحالي، رغم أنه لا يحكي فقط عن قصة مطور القنبلة الذرية، كأحد أسوأ ما قدمته البشرية على الإطلاق على صعيد أسلحة الدمار الشامل، بل يظهر أيضاً كيف يتم تهميش النساء بشكل منهجي ومهين بجعلهن مجرد شخصيات ثانوية يقدمن الرومانسية الجانبية الضرورية للرجل البطل كي ينجح في عمله. وفيما كان أوبنهايمر يعمل مع مجموعة من العلماء من كلا الجنسين، لا يظهر ذلك في الفيلم بوضوح على الإطلاق، مع تهميش عالِمات مِن بينهن نساء فزن بجائزة "نوبل" للفيزياء! علماً أن مخرج الفيلم كريستوفر نولان، الذي يوصف مراراً وتكراراً بأنه عبقري ومن الأفضل في تاريخ السينما، قدم النمط نفسه من التهميش في أفلام عديدة، حتى تلك التي تؤدي بطولتها نساء مثل فيلم "أنترستلر" العام 2014.

و"غريزيلدا" كسلسلة، لا تميل إلى تحدي ذلك السيستم عبر خطاب مباشر مثلاً، بل على العكس، يتم تقديم قصة متقنة تتقدم عبر الزمن، من دون الميل إلى الوعظ أو الإرشاد أو العاقبة الأخلاقية على غرار مشاريع فنية أخرى.

وبالنظر إلى هذا الجو الثقافي والسياسي والفني الذي تم تطوير "غريزيلدا" فيه طوال سنوات، استطاعت فيرغارا تقديم أداء ساحر: كيف تمشي وكيف تتحدث وكيف تنفعل وكيف تصل إلى جنون العظمة والبارانويا وكيف تأمر بالقتل وكيف تندم عليه وكيف تكره نفسها عندما تدرك أنها باتت الوحش الذي لطالما أرادت الهروب منه، وكيف تنظر بحب وحنان إلى أطفالها وكيف ينطفئ بريق عينيها عندما تسمع بخبر مقتل ثلاثة منهم وهي في السجن.

وطوال الحلقات الستة التي تقدم فترة زمنية محددة من حياة بلانكو من دون الغوص في ماضيها ومستقبلها، حيث الإساءات الجنسية والاغتصاب والدعارة والموت قتلاً بالرصاص، ينسى المشاهد كلياً أنه يتابع فيرغارا الرقيقة في حياتها الشخصية، وهي تحرك السيجارة بين أصابعها قبل أن تطلق قسوتها على الشاشة، تماماً مثلما كان المشاهد ينسى أنه يتابع نيكول كيدمان وهي تعبث بالسيجارة خلال أدائها لدور الكاتبة فيرجينيا وولف في فيلم "ذا أورز" الذي نالت عليه جائزة "أوسكار" كأفضل ممثلة العام 2003.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها