بث تلفزيون "مكان" العبري تقريراً مطولاً بعنوان "مخاطر يواجهها الصحافيون العرب في إسرائيل منذ 7 أكتوبر"، وهو أول تقرير من نوعه بعد تجاهل دام نحو 16 أسبوعاً، أي منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة.
وبهذا التقرير تكون "مكان" القناة العبرية الوحيدة التي تحدثت عن اعتداءات أفراد شرطة الاحتلال على الصحافيين الفلسطينيين داخل أراضي ال48 خلال الحرب على غزة، وهو أمر أشار إليه التقرير نفسه حينما أوضح بأن "الغريب في الأمر" أن الاعلام العبري لم يسلط الضوء ولو على حالة واحدة من الاعتداءات التي تعرض لها هؤلاء الصحافيون.
لكنّ التمعّن في معالجة التقرير، يشير إلى أنه غير بريء، لمجرد محاولته تقديم تفسير يهدف إلى تضليل العالَم بشأن دوافع العنف ضد الصحافيين، عبر إظهاره وكأنه ردة فعل من الجمهور الإسرائيلي لـ"خشيته" من كل ما هو عربي، ناهيك عن تعاطيه مع ظاهرة الاعتداء على الصحافيين الفلسطينيين، وكأنها وليدة "هجوم أكتوبر"، عدا عن اشتمال التقرير على رسائل دعائية ضمنية.
اعتداءات.. بالصورة
واستند التقرير، ومدته عشر دقائق، إلى ما رصدته جمعيات حقوقية متعددة بشأن ازدياد كبير للاعتداءات على الصحافيين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وانتهاك حقوقهم بعد الهجوم، ولم يتطرق التقرير إلى الاعتداءات على الصحافيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبدأ تقرير قناة "مكان" الرسمية، الناطقة باللغة العربية، ببث مقطع مصور لاعتداء أفراد شرطة الاحتلال على أحد الصحافيين الفلسطينيين في القدس المحتلة، وهو يصرخ قائلاً: "لماذا تضربونني؟.. أنا صحافي".. لكن ضابطاً في شرطة الاحتلال أمعن في الاعتداء عليه، حيث أمر جنوده بتكسير الكاميرا أيضاً. كما أورد التقرير مشاهد أخرى لاعتداءات مماثلة على صحافيين في وقائع متفرقة.
وفي مستهل مقابلات أجراها معد التقرير سمير عبد الهادي، أطل الصحافي رافيف دروكر من القناة العبرية "13" ليقدم تفسيراً مُضللاً لإخفاء الدافع العنصري المنظّم وراء الانتهاكات الممنهجة ضد الصحافيين، عبر قوله إن "الجمهور اليهودي يشعر بأنه يتعرض لهجوم وتهديد، وعواطفه تدفعه للشك بكل عربي". لكنّ دروكر اعترف بأن "الشك بين اليهود والعرب موجود دائما، إلا أن أسوار الشك علت أكثر".
واشار معد تقرير "مكان" سمير عبد الهادي إلى أنه تعرض للتجربة نفسها، إذ تعرض لتعنيف من الشرطة، وقال إنّ موقعة 7 أكتوبر كسرت كل المعايير، وأن العنف انتقل من إسرائيليين متطرفين إلى أفراد بالأجهزة الأمنية، ليصبح الفلسطيني في الداخل في دائرة الاستهداف، حتى لو كان صحافياً، بالرغم من أن التقرير لم يصفهم "فلسطينيين"، وإنما "العرب في إسرائيل".
واستدعى التقرير حادثة تهجم أحد أفراد الأمن الإسرائيلي على مراسل التلفزيون العربي أحمد دراوشة في الأيام الأولى للحرب على غزة، أثناء البث المباشر من منطقة غلاف غزة، وقطع عنصر الأمن الإسرائيلي التصوير حينها، وسأله بلكنة التهديد: "عمن تتحدث؟، حول ماذا تقريرك؟"، فرد عليه دراوشة: "أنا في البث"، ليصرخ في وجهه الشرطي الإسرائيلي: "لا يهمني إن كنت بالبث، عليكم أن تنقلوا الأشياء الجيدة عنا، يجب ذبح كل عناصر حماس، هل فهمتني؟".
"الطوارئ".. لتسويغ الانتهاك
في السياق، أكدت مديرة قسم "حرية الصحافة في منظمة الصحافيين في إسرائيل" عنات سراجوستي، أن الصحافيين العرب في إسرائيل لا يتمتعون بالحرية الصحافية التي يتمتع بها نظراؤهم الذين يكتبون بالعبرية، أو يعملون بالإعلام العبري، وخصوصاً منذ 7 أكتوبر. وقالت إن حريتهم تضعف أكثر في أوقات "الطوارئ الأمنية".
ولعلّ حالة "الطوارئ" التي أعلنتها إسرائيل شكلت غطاء لتنامي الاعتداءات ضد كل ما هو فلسطيني وعربي، بمن فيهم الصحافيون.
وبدت عنات سراجوستي أنها قد حملت شخصيات إسرائيلية معروفة مسؤولية تعزيز المس بالصحافيين العرب، وذلك على ضوء كتابتها منشورات في السوشال ميديا، أظهرت أنها حملت على عاتقها "مهمة وطنية إسرائيلية".
أما الصحافي الفلسطيني من الداخل وائل عواد، فقال للتقرير إن الحكومة الإسرائيلية فرضت "الخطوط الممنوعة والمسموحة" على الصحافيين، حتى وصل الأمر بإلزام الصحافي العربي العامل في وسائل إعلام خارجية بنقل ما يقوله المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي فقط، بينما يقول الصحافي الإسرائيلي رأيه بحرية، وأكد عواد أنه "كان يسمع الصحافيين الإسرائيليين يقولون معلومة أو معلومتين، والباقي رأيهم".
كما تحدث الصحافي في قناة الكنيست فادي مصطفى لتقرير"مكان"، موضحاً أن مساحة الحرية تقلصت أيضاً بالنسبة للصحافي اليهودي، وليس العربي فقط، وأصبحت الحرية ضيقة في اختيار المصطلحات والتعبير.
وواصل التقرير بث مشاهد لضرب تعرض لها صحافيون على يد أفراد شرطة الاحتلال. وتطرق إلى أمثلة مختلفة على تعرض الصحافيين للاعتداء، وقال معد التقرير إن التعامل من أجهزة الأمن يختلف بين وسيلة إعلام وأخرى، في إشارة إلى العنصرية الملحوظة، وتُترجم بالعنف المبني على الهوية الدينية والقومية.
40 انتهاك "موثق"
وتتنوع الانتهاكات بحق الصحافيين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر بين منع تغطية في أماكن معينة واعتداءات جسدية واعتقالات ومصادرة معدات، كما أفادت مديرة "مركز إعلام" خلود مصالحة ل"مكان"، موضحة أنها وثقت 40 انتهاكاً.
وأضافت مصالحة أن حرية الصحافة مقرونة بالهوية القومية، فإذا "كنت يهودياً تمتعت بحرية صحافة"، أما الصحافي العربي فلا حماية له، ويتم التعامل معه على أساس أنه عربي لا صحافي.
بيدَ أن عدم موضوعية تقرير "مكان" تجلت باستعراضه الاعتداءات كوقائع متزايدة، وليس ظاهرة منظمة، كما بدت معالجته وكأنها ترهيب للصحافيين الفلسطينيين في أراضي 48 أكثر من تقديم حلول، بدليل إشارته إلى أن الواقع تعزز بعد 7 أكتوبر.
وقال التقرير إن الصحافيين العرب في الداخل تحت مطرقة الملاحقة وسندان القلق، وأن الحرب جعلتهم يشعرون بأن أحداً لا يكترث لأمنهم، وأن مسؤولية حماية النفس تقع على عاتقهم وحدهم.
الخشية من اللغة العربية!
ولم تتوقف العنصرية الإسرائيلية المتعالية حدّ التطهير العرقي للرأي عند استهداف الصحافيين الفلسطينيين، بل وصل الأمر بالإعلام العبري إلى توقفه عن استضافة المختصين العرب خلال الحرب، وهو ما أكده تقرير "مكان".
وهنا، تقول مديرة قسم "حرية الصحافة في منظمة الصحافيين في إسرائيل" إن "الجمهور اليهودي يخشى من اللغة العربية ومن العرب، وأحياناً يستدعي الشرطة عند رؤية عرب في الشارع، هم لا يريدون سماع العرب".
وبينما يخلص تقرير "مكان" إلى أن الحرب فرضت واقعاً جديداً على الصحافيين العرب داخل الخط الأخضر، فإنه خاتمته تكُرّست لدعاية شرطة الاحتلال لتمويه الحقيقة، عبر استعراض ردها المزعوم بشأن واقعة الاعتداء على صحافيين في واد الجوز بالقدس المحتلة، إذ زعمت أن "الصحافيين لم ينصاعوا للأوامر، وعرقلوا عمل الشرطة أثناء أعمال شغب فلسطينية".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها