الإثنين 2023/09/04

آخر تحديث: 15:14 (بيروت)

هل بدأ عصر تماثيل بشار الأسد؟

الإثنين 2023/09/04
هل بدأ عصر تماثيل بشار الأسد؟
أقيم تمثال الأسد الابن في ريف حمص "بمبادرات فردية"
increase حجم الخط decrease
طوال سنوات حكمه الثلاثة والعشرين لم ينصب الرئيس بشار الأسد لنفسه تماثيل في سوريا، بل بقيت تماثيل والده حافظ التي يناهز عددها 3 آلاف موزعة في مختلف مدن البلاد، كتذكير رمزي ربما بأن سلطته أصلاً تأتي من والده الذي حكم البلاد بيد من حديد طوال ثلاثة عقود بعد انقلاب عسكري العام 1970، حتى لو زعم في تصريحاته الإعلامية الأخيرة أن والده لم يكن له أي دور في وصوله كإبن لمنصب الرئاسة بقدر ما وصل إليه بجهوده وعمله الوطني الدؤوب.

والتمثال الذي نصب للأسد الابن قبل أيام في ريف حمص، لا يغير كثيراً من ذلك المعطى العام، لأن النصب العملاق أقيم بمبادرة من أشخاص وليس من السلطة نفسها، حتى لو كان ذلك التمييز ضبابياً وعديم المعنى معظم الوقت في بلد يحكمه الأفراد لا المؤسسات، ما يحيل بدوره إلى سلوك نصب التمثايل بحد نفسه كشيء رسخ في الذهن السوري المعاصر على أنه طريقة للتعبير عن الولاء التام للسلطة، بشكل يجعل من تلك التماثيل في لحظة تذكيراً بهوية الحاكم والمسافة التي تفصله عن جموع المحكومين الخاضعين والضعفاء ممن يجب عليهم تقديم التبجيل والاحترام والحب، طوعاً أو قسراً.

وفيما كان تدشين التمثال صاخباً بالأعلام السورية والشعارات التي تحيي عظمة الرئيس القائد مع حلقات الدبكة، فإن المشهد ككل يبدو كنوع من التقرب للسلطة من قبل الأفراد، بتملقها إلى الحد الأقصى. وهو سلوك مارسه سوريون لعقود وأفرزته طبيعة الحكم الشمولية للبلاد، للتملق بحد ذاته أو للحماية، وخصوصاً من قبل من يخالفون القانون، كأن ينصب أحدهم تمثالاً لحافظ الأسد في مدخل بناء أقامه بشكل مخالف هنا أو هناك، بشكل يجعل من المستحيل القيام بأي إجراء رسمي ضده، ليس من قبل المواطنين بل من قبل المخالفين النافذين الآخرين المتنافسين فيما بعضهم على رضى القيادة.

واللافت أن نصب التمثال اليوم يأتي في وقت وصلت فيه البلاد إلى طريق مسدود رغم الانتصار على الحرب الكونية التي لطالما ادعى النظام أنه يواجهها. ومع الانهيار الاقتصادي غير المسبوق وانتشار الفقر وانزلاق أكثر من 60% من السوريين في الداخل إلى الجوع بحسب برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، وظهور مظاهرات وانتقادات غير مسبوقة للنظام في مناطق سيطرته من السويداء إلى الساحل، فإن التمثال يظهر أن هنالك فئة مازالت تدور شعارات النظام القديمة لتقديم أوراق ولائها للسلطة وترهيب الفئة الأخرى من المدنيين، مثل شجاع العلي الذي تكفل بنصب التمثال بتكلفة بلغت 650 مليون ليرة سورية، أي ما يعادل نحو 45 ألف دولار أميركي.

والعلي هو قائد مليشيا موالية للنظام السوري باتت تنشط في مجال الجريمة المنظمة بحسب تقارير ذات صلة، من عمليات الخطف عبر الحدود السورية اللبنانية إلى تجارة المخدرات وتجارة الأعضاء. وقال "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، وهو منظمة حقوقية مستقلة، أنه يرتبط بالمخابرات العسكرية للنظام السوري، وله علاقات مع "حزب الله" اللبناني. كما تنتشر شكاوى عليه من سوريين في مواقع التواصل يستجدون "القيادة السورية" لتخليصهم منه ويكررون أن لديه سجناً يعذب فيه المخطوفين الذين يصورهم ويرسل الصور ومقاطع الفيديو لعائلاتهم، كما قام العام 2021 باختطاف ضابط في الأمن الجنائي في حمص وقام بتعذيبه بطريقة وحشية وكسر يديه وقدميه، قبل رميه على الأوتوستراد أمام المارة، وعند رغبة شرطة حمص في ملاحقته كانت هنالك أوامر من وزارة الداخلية بعدم التعرض إليه، حسبما نشرت وسائل إعلام محلية.

ولعل أكثر ما يستدعي الانتباه هو توقيت الكشف عن التمثال بالتوازي مع الاحتجاجات المستمرة في السويداء حيث تحرق صور الأسد يومياً بشكل يذكر بثورة العام 2011 عندما كان السوريون يحطمون تماثيل حافظ الأسد، كطقس ضروري لكسر هالة العائلة التي حكمت البلاد ونشرت الخوف في نفوس السوريين طوال عقود، علماً أن النظام سارع قبل سنوات إلى إزالة الكثير من التماثيل من الساحات العامة، خوفاً من تحطيمها من قبل المتظاهرين، ثم أعاد نصبها في أماكنها القديمة بشكل تدريجي ابتداء من العام 2017، تحديداً في المدن التي ثارت ضده واستعاد سيطرته عليها مثل درعا وحمص وحماة.

ولعل السؤال اليوم إن كان بشار سيتجه نحو طقس أهمله لأكثر من عقدين من الزمن، عبر نشر تماثيله في أنحاء سوريا، على غرار تماثيل الحذاء العسكري وتماثيل والده وشقيقه الأكبر باسل الذي نشر له تماثيل جديدة في السنوات القليلة الماضية، مع الإشارة إلى أن حضوره في الفضاء الرمزي السوري كان طاغياً عبر الصور والشعارات بما في ذلك طبع وجهه على العملات السورية، فيما قدم نفسه على أنه أقل من والده صاحب الرمزية الهائلة والتقدير الذي مازال مستمراً حتى اليوم، تحديداً لدى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها بوصفه الشخص الأسطوري الذي مكن الطائفة بعد كثير من التهميش.

ففي السنوات الماضية مثلاً انتشرت صور لأفراد يقبّلون أيدي تماثيل لحافظ الأسد أعيد نصبها في الساحات، كما كان الموالون يكررون عبارة "انهض يا أبا الفقراء" لاستحضار روح حافظ الأسد إلى الحياة اليومية، مع تحول الرجل إلى مخلّص لتلك الطبقة من السوريين من المشاكل الاقتصادية والخدمية التي وجدوا أنفسهم فيها رغم "انتصار النظام على الحرب الكونية"، لأن "القائد المؤسس" كان بارعاً في التلاعب بحدود الفقر والثروة في البلاد لمنع انزلاق الأغلبية نحو عتبة الجوع كما يحصل اليوم.

ولم يكن الموالون في ذلك يستحقرون الأسد الابن بقدر ما كانوا يعبرون عن ولاء ضمني له وفاءً لوالده، خصوصاً أن الدعاية الرسمية في عهد بشار لعبت ببراعة على ذلك الوتر عبر تعويم رمزية الأب المؤسس وشعار الأسد للأبد، بحيث يصبح وجود بشار في السلطة بحد ذاته ضرورياً لاستمرار نهج القائد الخالد. ورغم ذلك، كانت هناك مقاربات دائمة بين الموالين للنظام منذ العام 2011 بين أسلوب بشار في قيادة "الأزمة"، أي الثورة السورية، وما كان والده ليفعل لو واجه انتفاضة شعبية بهذا الحجم، مع مقولة شائعة بأن والده لم يكن ليوصل البلاد إلى هذا الحد من التأزم أصلاً.

ولعل رغبة بشار في التمايز عن والده كانت أكثر حضوراً في طريقة تقديمه لنفسه للشعب السوري عبر الدعاية الرسمية. فصور حافظ الأسد، مثلاً، رغم غزوها لكل تفاصيل الحياة اليومية من الشوارع إلى زجاج السيارات والدفاتر المدرسية، بقيت قليلة، رسمية وعسكرية. وكان لزاماً أن يبقى في نظر "الشعب" شخصية صارمة قاسية يقود منظومة عسكرية حديدية. لكن بشار قدم صوراً مرحة لرئيس شاب يدعي الانتفاح والتقرب من الشعب بوصفه واحداً منهم، فظهر مراراً وتكراراً بثياب "كاجوال" ومن دون مرافقة، ونشر صوره مع عائلته وخلال وقته الخاص.

ولهذا السبب ربما لم تظهر تماثيل لبشار على الإطلاق حتى اليوم، خصوصاً هذه التماثيل العملاقة التي استوحاها النظام في الثمانينيات من حلفائه وأصدقائه في كوريا الشمالية والاتحاد السوفياتي، علماً أن أول تمثال لحافظ الأسد في سوريا نُصب العام 1984 في مكتبة الأسد بالعاصمة دمشق، على غرار تماثيل الرئيس الكوري الشمالي السابق كم إل سونغ. ومع مرور الزمن باتت تماثيل حافظ كثيرة ومكررة بالأسلوب عينه إلى حد انتشار قوالب جاهزة لصناعتها بلا أي تفاصيل وكأنها نسخ متكررة عملاقة أمام المواطنين البسطاء الأقزام وعديمي الحيلة، مع الإشارة إلى أنه لا تمثال لرئيس سوري آخر في أي ساحة في البلاد على الإطلاق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها