وفيما يأتي التصعيد الأميركيّ ضد "تيك توك"، من ضمن حرب الداتا بين أعظم قوتين اقتصاديتين عالميتين، مع توجيه اتهامات للمنصة المملوكة من شركة Byte Dance الصينية بتهديد "الأمن القومي الأميركي" من خلال احتمال استحواذ الحكومة الصينية على بيانات مستخدميها، لا يبدو الإعلام الأميركي مرتعداً من ذلك التهديد، شأنه شأن الإعلام الغربي عموماً.
فإجراءات الضغط في فرنسا أو بريطانيا وكندا، لم تثنِ
BBC أو
Le monde أو "
اندبندنت" مثلاً، عن الالتحاق بركب "تيك توك"، ما يثير التساؤلات حول مدى جدية التهديدات الغربية بحظر المنصة كلياً، وكذلك حول "كلفة" الالتحاق بالجماهير ولو كانوا على منصة صينية، قوامها مليار مستخدم حول العالم.
"تيك توك" كمصدر للأخبار
لـ"تيك توك" مسار تطور جدليّ. فمن منصة بدأت العام 2016 بفيديوهات قصيرة لمقاطع "راقصة"، وجمهور شبابي يافع، الى منصة تضم كبرى الصحف ووسائل الاعلام العالمية مثل "واشنطن بوست" و"إندبندنت". نجحت المنصة في استقطاب المحتوى الإخباريّ "المتخصص" و"الموثوق"، عبر انضمام الصحف ووسائل الإعلام العالمية اليها، بمحتوى إخباريّ شامل، من حرب أوكرانيا، الى الحرب في السودان، والاحتجاجات الفرنسية الأخيرة...
بات تطبيق "تيك توك"، "المنصة الأبرز لمتابعة الأخبار بدلاً عن المواقع الإلكترونية التقليدية"، وفق تقرير حديث لمعهد "رويترز" لدراسات الصحافة. ولا بدّ أنّ هذا التطور كان عاملاً حاسماً لالتحاق وسائل الاعلام المرموقة، بهذه المنصة.
في السياق، يقول الخبير في التحوّل الرقمي وأمن المعلومات، رولان أبي نجم، في حديثه لـ"المدن": "في دقيقة واحدة يمكننا تلقي المعلومات واستقاء الأخبار من مصادر إخبارية موثوقة، وذلك من خلال "كونسبت" الفيديو الإخباريّ القصير، الذي أثبت أن الناس قادرة على امتصاص معلومات كثيرة في وقت قصير".
الصحف الأميركية... أدرى بسياسات بلادها!
على أن هناك عاملاً حاسماً آخر، جعل وسائل الإعلام العالمية لا تتردد بالالتحاق بـ"تيك توك"، على قاعدة أنها هي الأدرى بسياسات بلادها.
إذ يبدو أن وسائل إعلام أميركية وغربية، تعتبر تهديدات الحكومات الغربية للمنصة بحظرها نهائياً، جزءاً من عملية الضغط على شركة byte dance الصينية المالكة للمنصة، في سبيل "الاستحواذ" الأميركيّ عليها.
في السياق، يؤكد نجم أن لا "حظر أميركياً تاماً على "تيك توك"، بل هو محدود بأطر عديدة. فالموظفون الحكوميون في الولايات الأميركية ممنوعون من تنزيل تيك توك على هواتف عملهم وليس هواتفهم الخاصة".
وحتى في ولاية مانهاتن حيث تم حظر التطبيق، هناك دعاوى ضد الحظر لتعارضه مع قوانين حرية الرأي في أميركا، وضرره على صناع المحتوى الأميركيين.
وللرئيس الأميركي صلاحية حظر "تيك توك"، لكن لا إرادة أميركية بالحظر الكلي، وإلا لكان حصل أيام الرئيس ترامب. أما الحظر في مانهاتن، فيضعه نجم في خانة الضغط لفرض الإملاءات الأميركية على مالكي المنصة، وصولاً لبيعها الى شركة أميركية، وحصر داتا مستخدمي المنصة في الحكومة الأميركية، شأنها شأن داتا "فايسبوك" و"تويتر"، مما يضمن عدم وصول الحكومة الصينية لتلك الداتا، لا سيما داتا المستخدمين الأميركيين الذين يفوق عدددهم المئة مليون مستخدم.
استثمار مربح
مع تبدد هاجس المنع الكلي لـ"تيك توك" مستقبلاً، يتجلّى الهدف الاستثماري لوسائل الإعلام في المنصة. يشدد أبي نجم على أنّ خوارزميات تيك توك و"الأورغانيك ريش" (انتشار المحتوى للمستخدمين بشكل مجاني)، أعلى بكثير من المنصات الأخرى، وهذه نقطة في صالح مستخدمي تيك توك، إذ تؤمن المنصة لحسابات وسائل الاعلام، زيادة قياسية لمتابعيها وأرباحها على حد سواء.
رغم هذه الاستفادة المزدوجة، نسأل أبي نجم عما إذا كان انضمام وسائل إعلام مرموقة لمنصة بدأت بمحتوى راقص وغير جادّ، ينتقص من "قيمة" تلك الوسائل، ليؤكد بدوره أن تيك توك باتت منصة شاملة للمحتوى الهابط أو غير الهادف كما المحتوى العلميّ والإخباريّ والهادف، وتالياً، فإن فتح حساب في المنصة، له المقاربة نفسها لفتح حساب على "انستغرام" و"فايسبوك" أو "تويتر".
بل أن خوارزميات تيك توك الدقيقة، تساعد المتلقي في إيجاد المحتوى الذي يناسبه على نطاق واسع جداً، وهو ما يبقيه في المنصة لفترة أطول من المنصات الأخرى.
وبرأيه، الاستفادة متبادلة بين تيك توك ووسائل الاعلام المنضمة لها، فتلك الوسائل تكسب فرصة انتشار محتواها على نطاق واسع وجني أرباح من المشاهدات، بينما تزداد أرباح تيك توك وإعلاناتها مع انضمام تلك المنصات لها، عدا عن شمولها للمحتوى الإخباريّ ذي المصداقية لدى الجماهير، ما يكسبها جماهير جديدة.
حرب الداتا... جدية
أزمة "تيك توك" الحقيقية هي أنه ليس خاضعاً للقانون الأميركي، أي أنّ بيانات مستخدميه ليست خاضعة للدولة الاميركية، بل هناك تخوف من خضوعها للحكومة الصينية، المنافس الأول لأميركا اقتصادياً وتكنولوجياً، يقول أبي نجم، مضيفاً: "إذا كانت الحرب العالمية الجديدة اليوم هي حرب الداتا، فستستحيل جماهير منصات التواصل الاجتماعي، طُعماً للداتا".
من جهته، يوافق مستشار أمن المعلوماتية، جان ماري الباشا، في حديثه لـ"المدن"، على أهمية حرب الداتا وخطورتها، لكنه في الوقت نفسه، يرى أن وجود وسائل الاعلام الأميركية والغربية في تيك توك، أو عدمه، لا يقدم ولا يؤخر في موضوع الداتا.
ويشرح أن هناك أكثر من 100 مليون مستخدم أميركي في "تيك توك"، سواء التحقت الصحف الأميركية به أم لم تلتحق، وهذا ربما سبب إضافي لالتحاقها به، إذ أنّ غيابها خسارة لها وحدها، لناحية عدم الوصول لجماهير هذه المنصة.
كما أنه من الناحية القانونية، لا قانون دولياً يمنع وسائل الإعلام تلك من التواجد في "تيك توك" أو غيرها من المنصات. في حين أن هناك صعوبات تقنية تعرقل سياسات الحظر في الدول التي تحاول ضبط استخدام "تيك توك" فيها.
أما اللافت في حرب الفضاء الرقمي، فهو أنّ الصين من جهتها طوّرت "جدار أمان" قوي قبل سنوات، ومنعت وصول سكانها للمنصات المملوكة أميركياً مثل "فايسبوك" و"تويتر"، خوفاً من وصول داتا الصينيين للحكومة الأميركية، في حين أنّ الولايات المتحدة تعجز عن تطبيق سياسات الحد من الحرية في الفضاء الرقمي التي تطبقها الصين. ويزيد الأمر تعقيداً، أن لا اتفاقيات وقوانين عالمية تنظم الفضاء الرقميّ. وكل دولة، تطبق القوانين التي تناسبها.
من يملك الداتا يعرف كيف تفكر الناس، يقول الباشا، مستخلصاً أن مهمة حماية البيانات اليوم "شخصية" وتقع على عاتق مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، بحيث يفصلون بين هواتفهم ذات الداتا القيّمة، عن هواتفهم التي تحوي حساباتهم في مواقع التواصل. لكنه في المقابل يسأل: "كم شخصاً حول العالم مستعد لحماية بياناته ذاتياً؟ ربما لا يتجاوزون الـ1%"!
"كنز الداتا"
الجميع يركض وراء الجماهير. كل بطريقته. فوسائل الإعلام تبحث عن جمهور يتابع أخبارها، والحكومات تبحث عن جمهور تتابع أخباره، أو بمعنى أدقّ، بياناته.
ويبدو أنّ مشوار البيت الأبيض مع "تيك توك" معبّد بشوك الصين التي لن تقدم "كنز الداتا" لمنافستها الأميركية ولو على طبق من ذهب. فتطبيق المليار مستخدم حول العالم، يزداد تطوراً وأهمية يوماً بعد يوم، ليشكل تحدياً غير مسبوق ليس للبيت الابيض وحسب، بل للمنصات المنافسة، وكذلك لأمن بيانات مستخدميه حول العالم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها