الجمعة 2023/07/28

آخر تحديث: 13:49 (بيروت)

"منيح اللي خلقنا عم نتسلى"

الجمعة 2023/07/28
"منيح اللي خلقنا عم نتسلى"
increase حجم الخط decrease
هاتف ذكي اخترق باحة الكف، فتمركز مشكِّلاً حاجزاً بينه وبين الأصابع التي اكتفت تحت هذا الجهاز الذي بات جزءاً لا يتجزأ من اليد.

تمتد اليد الأخرى كل حين لتشارك في عملية دعم الهاتف، فيما ينشط الإبهامان في عملية طباعة سريعة لمجموعة من الكلمات على أحد التطبيقات المتعددة الذي يحملها الهاتف الذكي.

يصعب تذكر شكل الحياة قبل الهواتف الخلوية أولاً والذكية ثانياً، فتسلّل هذه التقنية التي تؤدي دور المسّهل لحياتنا، حلّ مكان ذكريات ما قبل الخلوي، الذي بدأ مرتكزاً على قاعدة "عندما انطلق أرنّ لك رنّة، وعندما أصل رنتان".. وحمل خاصية الرسائل القصيرة ليحل مكان برنامج الدردشة "أم أس أن" الذي يتطلب كمبيوتر. 

مع كل تحديث على الهاتف بات يحررنا من الارتباط المباشر بالمكاتب والأجهزة الإلكترونية الكبيرة، فحمل بريدنا الإلكتروني، ووصل إلينا الـ"بلاك بيري" فسهّل التواصل "المجاني" على مدار الساعة. 

على غفلة منّا نحن شعوب العالم الثالث، كمستهلكين فقط لا مساهمين في الاختراعات أو الدراسات، وصلت الهواتف الذكية بتحديثاتها وتطبيقاتها التي لا تنتهي. 

دورنا وغيرنا من المستهلكين حول العالم، يقتصر على الانقسام بين محوري "أندرويد" و"آيفون"، فنخوض غمار التنافس بينهما لناحية الشكل ودقة الكاميرا والإكسسوارات المرافقة من ساعات وسماعات.

ولكننا نحن وقود التنافس الجدي، جميعهم يسعى إلى استقطابنا، فمُنِحنا أسماءً مختلفة على اختلاف التطبيقات التي استوطنت الأجهزة الذكية، "فولوورز" أي متابعين لأشخاص آخرين في الفضاء الافتراضي، ومؤثرين بالنسبة لأشخاص آخرين يتبعوننا ويتابعوننا. 

شبكة من العلاقات الافتراضية، تحمل في طيّاتها الكثير من تشعبات متعددة، بين التواصل مع أصدقاء ومعارف انتشروا على وسع الكرة الأرضية ونسج العلاقات الافتراضية التي تنهل إعجابات وتعليقات لا تخلو من التنمر والإهانات في كثير من الأحيان. 

تسلّل الهاتف الذكي إلى سريرنا، فبات آخر مَن نُسامر قبل النوم وأول مَن نُصبِّح عند الاستيقاظ. جهاز صغير يضيع في الحقيبة وتحت الوسادة، وعلى الكنبة إلا أنه ملازم أول وأخير. علاقة متواصلة في السراء والضرّاء، وانكباب على مواقع التواصل الاجتماعي في عملية مشاركة وبوح وتسلية، وفي بعض الأحيان في محاولة استجرار العطف. 

صراع بين الابتعاد عن الصفحات الإلكترونية، التي تستهلك الوقت، وتمتصه بسرعة هائلة جراء الكمّ الهائل الذي تبثّه من معلومات وفيديوهات، وبين البقاء على تماسٍ مع ما تنشره هذه الصفحات ومعرفة التوجه العام من قضايا معينة تتحول فجأة إلى محط أنظار عندما ترتقي إلى مستوى "ترند"، ويساهم الجمهور بالضغط في قضايا معينة من خلف شاشاتهم الصغيرة والمتوسطة من خلال نشر الأوسمة الدقيقة. 

كمّ هائلٌ من التفاعل يعجّل تفعيل هرمون الشعور بالاكتفاء والوجود تحت الأضواء بصورة تحصد آلاف الإعجابات، أو منشور يلقى تفاعلاً كبيراً ومشاركة عند مئات الأشخاص، فينتشر انتشاراً كبيراً، ويتدفق الأدرنالين مع تغيّر عدد المشاهدات وكأنها سوق الأسهم. 

لنا نحن مستهلكو التطبيقات الإلكترونية حول العالم، أسماء متعددة بحسب كل تطبيق. "فسابكة" على صفحات "فايسبوك"، و"تيك توكرز" على "تيك توك"، ومغردين على "تويتر"، ومن يعلم قد نكون تحولنا إلى "إكسيين" أو مجتمع "الإكس" مع خطوة إيلون ماسك بتغيير اسم وشعار "تويتر".. ومع بروز "ثريدز"، قد نكون "ثريديرز" أو ناسجي خيوط أو مخيّطين، بانتظار تعريب الكلمة أو اعتماد تسمية معينة لها.

حرب شعواء بين أرباب العالم الافتراضي والتقني، بين إيلون ماسك ومارك زوكربرغ، قبلها بين عوالم الفضاء الافتراضي ودونالد ترامب ما دفع به إلى إنشاء تطبيقه الخاص "تروث سوشيل". حرب، عنوانها الحفاظ على حريتنا في التعبير، وتقديم ما يلزم من تطمينات بعدم اختراق خصوصيتنا وبياناتنا الخاصة.

أما نحن فلا نجد في حياتنا ما يستأهل الاختراق، ولا تحمل خصوصيتنا ما هو مثير ليشكل مادة تستحق السعي للحصول عليها، نجد في هذه التطبيقات بعضاً من التواصل والتقارب مع أشخاص لسنا بحاجة للاحتكاك اليومي معهم والإسراف في الجهد والمجهود من أجل محادثتهم.

في العالم الافتراضي نردّ التحية عندما نريد ونراقب بصمت عندما ينسحب منّا النفس. "لينكدإن" في رحلة البحث المتواصل عن عمل، "فايسبوك" لاستقصاء بعض الأخبار الخاصة والاجتماعية، "سناب تشات" للترفيه، "تيك توك" للانتشار السريع، "تويتر" أو "إكس" للتغريد المتفلسف، "انستغرام" للاستعراض والتفاؤل واستقصاء الأخبار التي تفقد من وقعها المأساوي مهما بلغت درجة دراميتها لمجرد أنها أخذت شكلاً أكثر حداثة، و"ثريدز" في منزلة بين منزلتين، "واتساب" للأسر الكامل في محادثات لا تنتهي ورسائل صوتية لم تخفف من وطأتها خاصة تسريع الاستماع إليها...
أسرى نحن في هذه الأجهزة والتطبيقات. لا مكان للخلاص بسهولة بعدما تحوّلت إلى منصات ترويجية لجميع أنواع السلع والأخبار والآراء، كما أننا أجبن من أن نتخذ قرار الانسحاب من هذا العالم الافتراضي خوفاً من أن يفوتنا شيء ما، أو أن تمر فرصة ما من دون أن نتمكن من اقتناصها.

يقول لي صديق مقرّب: "لا يمكنك الكتابة على الهاتف، احتراماً للكلمة"، أما أنا فقد كتبت هذه السطور على هاتفي الخلوي، وهو ما أقوم به كل حين، ليس استهتاراً بالكلمة أو الكتابة، وإنما فقط للشعور بأنني أتفوّق على سجّاني الذكي وإني لا أزال أتمتع بالقدرة على توظيف بعضٍ من وقتي على مفاتيحه لهدف أسمى من... مجرّد البقاء في اللعبة الافتراضية!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها