الأربعاء 2023/06/07

آخر تحديث: 22:51 (بيروت)

عن مرآة بحجم الكرة الأرضية

الأربعاء 2023/06/07
عن مرآة بحجم الكرة الأرضية
الإيطالي ألفيو جيوراتو، "كورس"، 2019
increase حجم الخط decrease
"باكراً في حياتي، كان الوقت قد فات. هرمتُ في الثامنة عشرة (...) لم يترهّل وجهي كالوجوه ذات التقاسيم الرفيعة، بل حافظ على الشكل العام نفسه لكن مادته كانت مدمَّرة. أصبح لي وجه مُدمَّر". هكذا تفتتح الفرنسية مارغريت دوراس (المولودة في فيتنام)، روايتها-الصفعة على وجه النظام الأبوي. رواية "العشيق" التي تجمع بين فتاة مراهقة بيضاء غير مكترثة، وثريّ صيني، في زمن الاستعمار الفرنسي للهند الصينية.

دوراس كانت تماماً عكس النساء المرغوب فيهن في المستعمرات، حيث ركّزت حملات الجذب المُعدّة من قبل وكالات الاستعمار (ألا يبدو التعبير مألوفاً؟)، والتي استهدفت خصيصاً بنات البورجوازية الصغيرة، على أن المرأة الكولونيالية يجب أن تتمتع بصفتين رئيسيتين: أن تكون زوجة وأمّاً جيدة، مع وجوب الابتعاد عن أي نشاط ثقافي أو سياسي أو أدبي. طبعاً، هذا لم يكن ينطبق على الفتاة ولا على أمها التي "أعرف تماماً كيف تقف منحنية، كيف لا تبتسم، كيف تنتظر بفارغ الصبر أن ينتهي وقت التقاط الصورة". هذه الأرملة المكتئبة التي حاولت تأمين الاستقلال الاقتصادي لأولادها، وانتهت باستثمار مالها كله في أرض بور لا تنبت الأرزّ بعد تعرضها لعملية نصب من مستعمر فرنسي من أبناء جلدتها، المشروع الذي تحدثت عنه دوراس مطوّلاً في كتابها "حائط على المحيط الهادئ". والشيخوخة المبكّرة التي أصابت الراوية في "العشيق"، فهي ليست بعيدة من رؤية دوراس للجمال: لم تكن الكاتبة ترى جمالاً إلا في الأشياء الناقصة، الممحيّة، الغائبة. حتى وجهها الجميل لم تكن تراه إلا بعد كسره وتحطيمه في عيون الآخرين، تماماً كعدم اكتراثها بالموضة وارتدائها قبعة رجالية اشترتها لها أمها من متجر الثياب المستعملة.

المقدّمة أعلاه عن إحدى "أجمَل" كاتبات فرنسا المعاصرات، بالمعنى الأدبي للكلمة، هي محاولة لتلمّس ماهية الجمال الأنثوي. تعريف داخلي لا يخضع للشروط المجتمعية دائمة التغيير والمطابقة لصورة الطبقة البرجوازية في كل مرحلة: امرأة بيضاء ممتلئة في العصر الزراعي لأن السُّمرة تعني العمل الدؤوب في الحقول والنحافة قلّة الطعام.. امرأة بعينين زرقاوين وشُقرة فاقعة في زمن الحداثة حيث الرسائل الثقافية تشّع من الغرب إلى الأجزاء الأخرى من العالم.. ثم امرأة سمراء نحيفة في عصر ما بعد الحداثة حين أصبحت السمنة مرادفاً للمأكولات السريعة، والبياض لعدم القدرة على السفر في عطلات بعيدة.

ماذا يعني أن تكوني جميلة اليوم؟ ليس تفصيلاً أن كبريات دور الأزياء بدأت تستعين بنساء "غير مطابقات" لصفات الجمال التقليدية: سمينات، ذوات احتياجات خاصة، نساء من الأقليات العرقية أو الدينية إلخ...نساء جميلات بالمعنى الحقيقي للكلمة، بما يتمتعن به من نقص عن المرأة الباربي التي دفعت مراهقات حياتهن ثمناً للتشبّه بها.

هل تعرّف المرأة اليوم جمالها من داخلها؟ لا يبدو الحال كذلك في العالم العربي والشرق الأوسط، حيث ما زلنا كنساء رهينات لنظرة تطلب المرأة المثالية في مجتمعات أبعد ما تكون عن المثالية. ما زالت النساء بضاعة لخَطّابة وهمية تفحص شعرهن وأسنانهن ونحافتهن ولباقتهن إلخ ألخ...حتى اللواتي نجحن في حياتهن المهنية، لم يكسرن بعد هذا الهوس الجمالي المستشري على شكل عمليات تجميلية تؤدي أحياناً إلى عكسها. العالم الغربي الذي أخضع النساء طويلاً لنظام العبودية الجمالية هذا، من خلال "الكورسيه" الذي يقطع الأنفاس أو حمّالات التنانير الثقيلة مثلاً، نجحت سيداته في تنحية نموذج المرأة الدمية التي لا تعتبر جميلة إلا بقتلها لجمالها الطبيعي، ولا تؤخذ على محمل الجد مهنياً.

في الجزء المتعلّق بنا كنساء شرقيات، فقد دخلنا في موجة أخرى من هوس المرآة منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. حتى نحن، المشتغلات في الأدب أوالأبحاث والتعليم العالي، لا نسلم من هذا الاستعراض المدوّخ! كيف يمكن لامرأة أن تفلت من مرآة بحجم الكرة الأرضية؟ لا سيما أن كل ما يتطلبه الأمر هو نقرة على كاميرا الهاتف، ثم إيجاد فيلتر مجاني ملائم يفوق أكبر صالونات التجميل دقة، كي تنهمر تعليقات الإعجاب "ويا أرض اشتدي ما حدا قدي!".. لا سيما في أيام الشكّ الفظيع، حين تتسرّب التجاعيد إلى أرواحنا.

لعبة لذيذة؟ سادية أم مازوشية أم إطالة عُمر شباب آفل؟ في كل الأحوال، للمرآة وظيفة نفسية تحدّث عنها جاك لاكان، أبعد من نرسيس المهووس بصورته المنعكسة على وجه البحيرة. فبحسب لاكان، ثمة لحظة أولى لكل طفل ينظر فيها إلى نفسه في المرآة ليكتشف بأن ما يراه لا يطابق صورته الداخلية المؤلفة من أفكار وتفاصيل وأحياناً مبالغات. هذا الانفصام بين العالمَين الداخلي والخارجي يتواصل طيلة حياة المرء، ليخلق سوء تفاهم دائم، وعدم قدرة الآخرين على اختراق هذه الرؤية الخارجية. لذلك نموت وحيدين، ونعيش وحيدين أيضاً.

في خلال جولة سريعة في مول أميركي (وربما هذه آخر أيام موضة المولات الآفلة في الولايات المتحدة)، لاحظتُ قلة النساء البيضاوات في الإعلانات. لم يعد المُعلِن يستهدف الطبقة البيضاء المتوسطة الآخذة في الاضمحلال، بل طبقة المهاجرين الصاعدة نحو الطبقة المتوسطة. فهل الصوابية السياسية والدعوة إلى التعدد الثقافي في المجتمع، هي أيضاً نتيجة هذا التهميش المتعمّد لطبقة لم تعد تُلبي جشع المُصنّع؟ على كل، ما زالت قوانين السوق الاقتصادية تحدد توجهات الثقافة والسياسة -كما كانت تفعل منذ بداية التاريخ. لهذا، فإن رياح الشرق الأقصى بدأت تتغلغل في كل شيء هنا في أميركا، لا سيما لدى الجيل الجديد: من الطعام إلى موسيقى البوب الكورية والآنيميه الياباني، وحتى تعلّم اللغات، إذ تشهد أقسام تعليم الماندرين إقبالاً لا مثيل له لتعلم لغة الصين الرسمية.

فكيف ستبدو المعايير الجمالية المقبلة؟ وهل ستُحبس أقدام الفتيات في أحذية ضيقة؟ أم سيفرض النضال النسوي في الشرق والغرب شروطه الأكثر عدالة للمرأة ودورها وصورتها عن نفسها؟

وبالعودة إلى كتاب "العشيق" لدوراس، ربما في كتاب مستقبلي سيرى الرجل الصيني نفسه في مرتبة أعلى من الفتاة الغربية غير المبالية وأسرتها المتعالية!  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب