الخميس 2023/06/22

آخر تحديث: 00:09 (بيروت)

ناموا.. قبل أن يصبح عندكم أولاد

الخميس 2023/06/22
ناموا.. قبل أن يصبح عندكم أولاد
"طفولة" للفنان الأوكراني ديما فيلاتوف
increase حجم الخط decrease
استعدّيتُ لفكرة الانجاب، ولطريقة التعامل مع فترة الحمل. واستعدّيت لكآبة ما بعد الولادة، لاحتواء ما يمكن أن يصيبني. وأيضاً لأكون أمّاً، أحمّم طفلي وأرضعه وأعتني به.

وجدتُ نفسي أسيّر أمور طفلة لا حول لها ولا قوة، أفهمها من دون أن تتكلم، أشعر بجوعها، بوجعها، بكل ما تريد. نطقَتْ كلماتها الأولى وكنتُ المترجم الأول، عشت معها الكثير من "أول مرة": أول خطوة، أول كلمة، أول وجبة، أول سن، أول يوم حضانة، أول فراق، أول عيد ميلاد، وأول يوم مدرسة. الكثير مما فعلتُه يندرج ضمن غريزة الأمومة.

إلا أني فجأة، وفي غفلة من زمني، وجدتُ نفسي أمام طفلة مراهقة، لم أتهيأ للتعامل مع تفاصيل حياتها، أو طولها الذي بات يُعادِل طولي. ضحِكت كثيراً عندما قلت لها: عليكِ أن تبحثي عن شخص أطول مني لتلحقيه بالطول، لن يفيدك أن تصلي فقط إلى طولي أنا، إختاري مثالاً أطول... وما لبث أن تحوّل مزاحي هذا إلى جدّ، وصلت الصغيرة إلى طولي ولم أكن مستعدة تماماً لذلك.

تحوّلت الصغيرة إلى مراهقة، أو تكاد، ولم يحضّرني أحد لسرعة التحول. لم أعتقد أنني سأنام حاضنة طفلة صغيرة، وأصحو في اليوم التالي على برعم مُراهِقة. هنا أيضاً، مرة أولى لنا، أنا وهي: أول المراهقة. طفلتي في الحادية عشرة من عمرها، تتصرف بثقة مَن ختم العِلم وتجربة الحياة، هذا ما لم أكن مستعدة له.

المقدمة الخاصة لا تعني أن الموضوع خاص، إنها المعضلة الأكثر شيوعاً بين الأهل في هذا العصر. التعامل مع أطفال، أقل ما يقال عنهم أنهم مراهقون محصّنون بكمية لا تنتهي من الإجابات والقدرة على المحاججة، إلى درجة يسهل الاستسلام أمام طلباتهم، فقط من أجل تسيير الأمور بأقل تنازلات ممكنة.. وصداع أخف.

شَعرة واحدة تفصل بين الإجابات التي تنم عن ثقة في النفس، وتلك التي لا يمكن لأمٍّ تحمّلها. في لحظة ما، يتحول الحوار إلى جدل عقيم. تعلن الأم، أو الأب، الاستسلام فور الوصول إلى نقطة اللاعودة مع سؤال "إي وشو يعني؟ شو بيصير؟".

"هذا حقي"، "هذا يندرج ضمن خصوصيتي الشخصية"، "ماما لا يحق لك الاطلاع على هاتفي"، "الرجاء لا تصرخي، يمكننا التحاور بهدوء"... وغيرها من العبارات، تلعلع بالفرنسية أو بالانكليزية، فلا يبدو أنها صادرة عن طفل أنجبتُه، وكأنه ينطق بلسان آخر من زمن آخر. تراقب حجمها الصغير، أو تتذكر سنّها اليافعة، وتتساءل: "متى صِرت هكذا؟". حجج وأسئلة وقدرة على الجدل تدوم وتدوم وتدوم، ولا يمكن طلب أكثر الأمور بداهة من دون ربطها بحجة مقنعة: لماذا عليها أن تدخل لتستحم الآن، أو لماذا يتوجب عليها ربط شعرها وهي لا تشعر بالحر؟!

كيف تتعامل مع أطفال يتجرعون معاني الحرية والديموقراطية والتعبير من الفضاء الالكتروني، من انفتاحهم على العالم أجمع؟ يشكلون آراء من قضايا اجتماعية كبرى، وفقاً للترند والأكثر إنتشارآً حول العالم. أطفال يتفاعلون مع الحروب وحقوق الإنسان والتصدي للعنف في عصر حملات الضغط العالمية للتفاعل مع قضية ما، أو التصويت لصالح أحد طرفي النزاع.

سلبي أم إيجابي التعرض المباشر وغير المباشر لهذا الكم من الأخبار والآراء في سنّهم الصغيرة؟ مَن هو الحكم، ومَن يستطيع الآن حسم هذا الجدل؟ قبل أيام، نجا اربعة أطفال من براثن موت محقق في غابات الأمازون، بعد سقوط طائرتهم وضياعهم أياماً طويلة، واستطاع هؤلاء الأطفال النجاة إثر تطبيق استراتيجية كانوا يعتمدونها في إحدى الألعاب الاكترونية. كيف لي إذاً أن ألوم الهاتف أو اللوح المحمول، وألقي عليهما غضبي بأنهما مصدر إلهاء وتشويش؟ لكن، منذ سنوات قليلة، ارتكب حَدَث يافع مجزرة بالذخيرة الحية، وهو كان من ممارسي لعبة PUBG. فكيف لي أن أطمئن لهذه الأدوات التي تمتص انتباه الأطفال، حتى أبدو أني أخاطب الحائط؟

الحيرة الأكبر، "شخصية". هل ما أحاول ممارسته في أمومتي، نابع ممّا عشته أنا؟ لطالما كرهت طفولتي والتعامل معي أيامها، والمقارنات التي استُخدمت في تربيتي: "على أيامنا ما كنّا..."، وإذ بي أقع في الفخ نفسه، فأكرر الفرق بين أيامي والأيام الحالية. أعتقد أني عشت طفولة أصعب من طفولة ابنتي، وأمارس أمومة أصعب من أمومة أمي.

عصرية أنا في أمومتي؟ مَن هو الحكم؟ لكني حتماً حذرة، أخاف أن أكون عصرية أكثر مما يجب، فأقع في فخ منح طفلتي من الحرية أكثر مما ينبغي... لكن لا حدود للحرية، إلاّ أنها طفلة بحاجة لحدود، لتعرف كيف تتعامل مع الحياة بخيباتها وإيجابياتها.

كانت معالجتي النفسية تردّد: "لا يجب أن تكون الأمومة همّاً"، تقول أني يجب ألاّ أخاف، فهي أمر تلقائي، لا تكلّف فيها ولا تفكير. إلاّ أني، وبعد هذه السنوات، لم أجد حتى الآن هذه الراحة. أحب كوني أمّاً، ولا يعنيني الضغط تحت وطأة تصنيف الأم المثالية. لكني لم أتمكن من الوصول إلى هذه "التلقائية". كيف تكون تلقائياً مع طفل يفرض عليك شروط اللعبة، وكلما حاولت التأقلم معها، انتقل إلى مرحلة جديدة من العمر التي تبدل شروط اللعبة مجدداً... لصالحه!

كان نابليون الذي قال إن "الأم التي تهز السرير بيمينها.. تهز العالم بيسارها". لكن أحداً لم يقل لنا أن هذه الأم ستجد نفسها عاجزة عن إيجاد جواب ديموقراطي بدلاً من "لأن أنا هيك عم قول". الجواب كان على سؤال: "ما تأثير أظافري الطويلة في عقلي وذكائي؟".

أمي تردد: "بيكبروا وبيكبر همّهم معهم"... وأنا أقول: "ناموا قبل ما يصير عندكم أولاد"!
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها