الجمعة 2023/05/05

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

فوكس نيوز وكارلسون والقِيَمُ الأميركيّة

الجمعة 2023/05/05
فوكس نيوز وكارلسون والقِيَمُ الأميركيّة
ترامب وإلى يمينه كارلسون خلال مباراة غولف في تموز 2022 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أخيراً ظَهَرَت القشّةُ التي قصَمَت ظَهْرَ تاكر كارلسون! وكان الرجلُ هو النجمَ الألمعَ بينَ أصحابِ البرامجِ السياسيّةِ في "فوكس نيوز". وكان متابعو برنامجهِ ملايينَ على شاشةٍ هي أهمُّ ما يُحْتسبُ في خانةِ "اليمينِ" من بينِ مؤسّساتِ الإعلامِ الأميركيّ. وهيَ – بينَ ما هِيَ – أقوى قوى "الترامبيّةِ" الضاربةِ، في ميدانِ الإعلامِ، ولكنّها أهَمُّ من الترامبيّةِ وأرْحَبُ: كانت في الساحةِ قبلَها وتبقى بعدَها. وقد صرَفَت الشركةُ كارلسون بغتةً، قَبْلَ نحوٍ من عشرةِ أيّامٍ، وهذا غداةَ التسويةِ التي أفضى إليها النزاعُ القضائيُّ بينَها وبينَ شركةِ "دومينيون لأنظمةِ الاقتِراع"، صاحبةِ البنيةِ التجهيزيّةِ المعتمدةِ للاقتراعِ ولاحتسابِ نتائجهِ في الانتخاباتِ الأميركيّة.

كان مناطَ النزاعِ ترويجُ "فوكس نيوز" أضاليلَ مختلفةً ترمي إلى تزكيةِ الدعوى الترامبيّةِ القائلةِ بأنّ انتخابَ 2020 الرئاسيَّ خالطهُ تزويرٌ أتاحَ "سرقةَ" الفوزِ فِيهِ من دونالد ترامب ومنحَهُ لجو بايدن. وكان الطعنُ في كفاءةِ الأجهزةِ التي تصنعها دومينيون في مقدّمةِ ما اعتُمِدَ وأُبْرِزَ إثباتاً للدعوى المذكورة. وهو ما جابهَتْهُ هذه الشركةُ بدعوى تشهيرٍ أقامَتْها على "فوكس نيوز" طالبةً تعويضاً لما لحقَها من ضَرَرٍ قدّرَتْهُ بمليارِ دولارٍ وستّمائةِ مليونٍ لا غير! وكانَ لا يزالُ يفصلُ فوكس نيوز يومٌ واحدٌ عن الموعدِ المحدّدِ لها لتقديمِ دُفوعِها في وجهِ التُهَمِ الموجّهةِ إليها حينَ "تصالَحَ" المدّعي والمدّعى عليهِ على مبلغٍ قدْرُهُ سبعمائةٌ وسبعةٌ وثمانون مليوناً ونصف مليونِ دولارٍ تؤدّيها فوكس نيوز لدومينيون لقاءَ فَضّ النزاع. وكان هذا – على ما تردّدَ – أضخمَ تعويضٍ في التاريخ كلّه تنتهي إليه قضيّةُ تشهير!

بَعْدَ أيّامٍ من المصالحةِ، صُرِف كارلسون. قدّمت الشركةُ قرارها على أنّه "افتراقُ طرُق" وشكرَت المصروفَ على حُسْنِ الخدمة. ولكنّ الرابطَ بين الصرفِ والمصالحةِ التي كلْفَت روبرت مردوك وابْنَهُ هذه النفقةَ الباهظةَ لم يفُت نباهةَ المعلّقينَ وإن ظلّت تشوبُه بعضُ حيرة. كان برنامجُ كارلسون ضالعاً في الحملةِ التي ذهبت بها دومينيون إلى القضاءِ ضلوعَهُ في أمورٍ كثيرةٍ أخرى تندرِجُ وهذه الحملة في "خطّ" عامٍّ: خطٍّ متّسعٍ لدعاوى مقَدَّميّةِ العِرقِ الأبيضِ وتهديدِ الجماعاتِ الملوّنةِ لها بوجوهِها كافّةً، ولإنكارِ التغيّرِ في مناخِ الكوكبِ وما يترتّبُ عَنْهُ، والتهوينِ من شأنِ الوباءِ والتشكيكِ في سلامةِ الإجراءاتِ المتّخذةِ لمُواجَهَتِهِ بما فيها التلقيحُ، والدعوةِ إلى تشديدِ القيودِ المفروضةِ على الهجرةِ والمهاجرينَ، والهجومِ على كلّ توجّهٍ لتعديلِ النظامِ الضريبيِّ بحيثُ تُزادُ الفريضةُ على الثرواتِ الكُبْرى، ولمعارضةِ كلِّ مشروعٍ لتوسيعِ نطاقِ العنايةِ الصحّيّةِ نَحْوَ الهَوامشِ والتخفيفِ من وطأةِ أكلافِها على الأفرادِ والأسَرِ، وللتصَدّي لكُلِّ بادرةٍ ترمي إلى تشديدِ القيودِ على بيعِ السلاحِ  للمواطنينَ، إلخ.

على أنّ كارلسون لم يكن ناهضاً وحدَهُ في فوكس نيوز بعبْءِ هذه "القضايا" كلِّها ولا كانت فوكس نيوز بأسْرِها الشاشةَ الوحيدةَ  الملزِمةَ نفْسَها بهذا الخطّ. بل إنّ نصيبَ كارلسون من وقائعِ "التشهيرِ" المثارةِ في دعوى دومينيون اعتُبِرَ أَمْيَلَ إلى التواضعِ، إجمالاً، وهذا على الرغْمِ من التصَدُّرِ المؤكّدِ للرجلِ ولبرنامجِه. فكان هذا التواضعُ باعثاً للتساؤلِ عَمّا حَمَلَ "فوكس نيوز" على استهدافِ هذا الوجهِ البارزِ من وجوهِ شاشتِها بالعقوبةِ وعلى خسارةِ برنامجٍ هو أنجحُ برامجِها السياسيّةِ، بالتالي. بدا إذَنْ أنّ تقديرَ المسؤوليّةِ عن الهزيمةِ أمامَ دومينيون لم يأتِ منْصِفاً وأنّ العقوبةَ وقعَت، على الأرجحِ، حيثُ لم يَكُنْ لها أن تقع.

يبدّدُ نصُّ الرسالةِ التي تداوَلَها الإعلامُ يَوْمَ أَمْس هذه الحيرةَ ويتكشّفُ عن عِبَرٍ ذواتِ وَقْع. والرسالةُ قديمةٌ وجّهَها كارلسون إلى "منتِجِ" برنامجِه غداة 6 يناير/كانون الثاني2020 الشهيرِ، يومِ الهجومِ الانقلابيِّ على حَرَمِ الكابيتول، في واشنطن العاصمةِ، للحؤولِ دُونَ تصديقِ الكونغرس نتيجةَ الانتخابِ الرئاسيّ. يبثُّ كارلسون هذا "المُنْتِجَ" (الذي ترجّحُ فَحْوى الرسالةِ كونَه صديقاً حميماً لمرسِلِها) لواعجَه حيالَ مشهدِ عنفٍ عايَنه، على الشاشةِ، في واشنطن أيضاً، قَبْلَ أيّامٍ من ذلك النهار: مشهدِ ترامبيّينَ راحوا يوسِعونَ فتىً من خصومِهم ضرباً. ونَفْهمُ أنّ الفتى الخصمَ أحدُ المنتمينَ إلى "أنتيفا": وهذه حركةٌ يساريّةُ النَفَسِ، تكثرُ فيها الأجنحةُ والشراذمُ بحيثُ تبقى مفتقرةً إلى الوحدةِ أو المُسْكةِ، ولكن يجمعُ بين عناصرِها السعيُ في مقاومةُ الفاشيّة. يُسِرُّ كارلسون إلى المنتِجِ أنّه وجَدَ نفْسـَهُ يتمنّى لو أنّ الترامبيّينَ أمعنوا في تنكيلهم بالفتى إلى حدّ قتلِه. ولكنّه يضيف أنّه لم يلبث أن زجرَ نفسه إذ اعتبَر أنّه لو ثابرَ على هذه الرغبةِ متجاهلاً كونَ الضحيّةِ بَشَراً، فإنّه يَفْقدُ هو نفْسْه كلَّ أفضَليّةٍ على العنصرِ الـ"أنتيفا"!

ومع ما في هذا الاعترافِ من شحنةٍ تَسْتَفِزُّ المَشاعِرَ فإنّ بيتَ القصيدِ في موضِعٍ آخر من رسالةِ كارلسون. هو في ملاحظتهِ أنّ مهاجمي الفتى كانوا ثلاثةً لواحد، في الأقَلِّ، وأنّ هذا يٌفْقِدُهم "شرفَ" القتال وأنّه "ليس طريقةَ البيضِ من البَشَرِ في القتال!".  يعكسُ تداولُ الإعلامِ الأميركيِّ أمْسِ هذه العبارةَ الأخيرةَ نوعاً من "الصدمةِ الوطنيّةِ" الواسعةِ النطاقِ حيالَ صدورِها عن شخصيّةٍ عامّةٍ ذائعةِ الشهرةِ إلى هذا الحدّ. وهذا على الرغْمِ من المعرفةِ العامّةِ بالرجلِ وبفوكس نيوز! من جهةٍ أخرى، بدّدَ نشرُ الرسالةِ كلّ حيرةٍ كان إقدامَ الشركةِ على صَرْفِ كارلسون مَصْدَراً لها. فالرسالةُ كانت في المحكمةِ مضمومةً إلى أوراق دعوى التشهير. وكان لوقوفِ كارلسون في المحكمةِ وسؤالهِ عنها (وعن سواها من الأوراقِ، على الأرجحِ) كلفةٌ فادحةٌ على فوكس نيوز. هذه الكلفةُ هي بعضُ ما ضحّت فوكس نيوز بمئاتِ الملايينِ (وبكارلسون نفْسٰهِ أيضاً) تفادياً منه.

تُشيرُ هذه الواقعةُ إلى أمورٍ عديدةٍ: إلى موقعِ القضاءِ الحيويِّ في النظامِ الأميركيِّ وإلى وجودِ رأيٍ عامٍّ مرهوبِ الجانبِ يُحْيي ويُميتُ في ما يتعدّى كثرةَ العناصرِ والتناقضاتِ واتِّساعَ مرْوَحةِ التَوَجُّهاتِ في المجتمعِ الأميركيّ. يزيدُ من سطوةِ الرأيِ العامّ هنا أنّ الذي في الميزان شخصيّةٌ إعلاميّةٌ ومؤسّسةٌ إعلاميّة: أيْ كيانانِ ينتهيانِ إلى لا شَيْءٍ إذا جُرِّدا من نصيبٍ لهما من الرأيِ العامِّ يصنعُهُما وتَصْنعانِه. على أنّ الأعمقَ في ما تُشيرُ إليه الواقعةُ نفْسُها إنَّما هو منظومةُ القيمِ التي تمخّضَ عنها المِراسُ التاريخيُّ لقُوى هذا المجتمعِ وتتمخّضُ بدورِها عن أوتارٍ حسّاسةٍ يُخشى المسُّ بها أشدَّ الخشيةِ ويَهونُ لحفظِها بَذْلُ المالِ، وهذا على الرغم من بعْدِها عن حيازةِ الإجماعِ واقعاً. وذاكَ أنّ المَسَّ بِها يُعَدُّ، على نحوٍ ما، نامّاً برغبةٍ ما في إخراجِ أميركا من مَآلاتِ تاريخِها المُكَرّسةِ: أيْ ممّا صَنَعَتْهٌ ديناميّاتُ الصراعِ التاريخيِّ من وَحْدةٍ صَعْبةٍ، نابضةٍ، لهذا المُجْتَمَعِ الضخْمِ، الهائلِ التعقيدِ... وَحْدةٍ لا تقاسُ أكلافُ تَصَدُّعِها ولا تُحَدّ. فيَبْرُزُ، والحالةُ هذهِ، شعورٌ فَوْرِيٌّ حيالَ الرغبةِ المشارِ إليها يفرِضُ لها صورةَ الرغْبةِ في إخراجِ أميركا من نفْسِها. 

 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها