الأربعاء 2023/05/03

آخر تحديث: 12:43 (بيروت)

ديربورن التحتا...جمهوريتنا العربية في بلاد العم سام

الأربعاء 2023/05/03
ديربورن التحتا...جمهوريتنا العربية في بلاد العم سام
لوحة للفنانة الفلسطينية السورية الأميركية: جاكلين ريم سلوم
increase حجم الخط decrease
يحدّها من الشرق مطعم "لاشيش"، الذي تدور حوله أقوايل نزاعات عائلية أدّت إلى إغلاقه لفترة، ومن الغرب محلات أبو محمد عطا المتنوعة لصاحبها البشوش حيث يمكنك شراء سيارة بنت ناس بالتقسيط المريح، ومن الجنوب المتحف العربي الأميركي وهو تقريباً صرح العرب المدني الوحيد في أميركا العامرة بالمساجد، ومن الشمال محطة بنزين علي بزي التي تجدّدت في فترة "كوفيد" لتواكب العصر وأضافت أنواعاً جديدة على لائحة الهمبرغر في الداخل.

هنا 36 كيلومتراً مربعاً من الوجود العربي الكثيف: أهلاً بكم في ديربورن التحتا في ولاية ميتشغان التي لها ملحقات أخرى توسّع فيها الوجود العربي، مثل ديربورن الفوقا وغاردن سيتي وملفنديل وألن بارك، وغيرها.

يصعب عليّ حقاً أن أحيط بهذه المدينة التي بدت لي عجيبة وشبه كاريكاتورية حين حططت الرحال هنا من ولاية تينيسي، أرض أصحاب الرقبة الحمراء، بعدما طردتنا الطغمة الحاكمة في الوطن الحبيب إثر تبعات حرب تموز 2006 وشرّدتنا في أصقاع الأرض لنصبح الموجة الرقم.. الله أعلم من أوديسة الفرار اللبناني. بلا طول سيرة، فالمهاجرون يستسيغون جداً فتح حقائب الذكريات وإقامة مجالس الندب الشخصية، المهم أني أجدّ نفسي أفكّر طويلاً قبل كتابة هذه الجُمل. أولاً، لأني لم أعِش في المدينة بالمعنى الحرفي، لعدم قدرتي على تأمين ثمن بيت بسبب الإقبال الكثيف من العرب على شراء البيوت في هذه البقعة الضيقة. وثانياً، لأني لا أستسيغ الإلتصاق الإثني الذي يبدو أمراً عاديّاً في الولايات المتحدة، حيث نجد الحي المكسيكي والحي الصيني والحي الإيطالي إلخ...أبحث دوماً عن التنوّع الذي يدخل أوكسيجناً طازجاً بعيداً من مستنقع الانتماءات الجاهزة، أو ربما لأني على مذهب الإمام بودلير، أحبّ مشاهدة صخب المدينة من زاويتي القصيّة، من دون أن أتدخل في جريان الأحداث.

هذه المدينة وضواحيها تضمّ 490 ألف عربي بحسب الأرقام الرسمية... وأكثر من ذلك في الواقع، لأن العرب والشرق أوسطيين بشكل عام يُعتبرون من البيض، حتى الساعة، بحسب المركز الوطني للإحصاء، وذلك لأسباب تاريخية منها أن أول المهاجرين من سوريا الكبرى كانوا يأتون من طريق أوروبا ويتم المزج بينهم وبين متوسطيين آخرين كالإيطاليين واليونانيين.


(رسامة الشرائط المصوّرة الأميركية العربية- لأبٍ مصري وأمّ سورية: هدى فهمي)

ظاهِر هذه المدينة يختلف تماماً عن باطنها، كغالبية المدن العربية. ديربورن مدينة محجّبة في الظاهر، تشبه بنت جبيل، بحسب الكاتب أحمد بيضون في كتابه "بنت جبيل-ميتشغان"، أو تشبه الضاحية الجنوبية بحسب القادمين غير الجنوبيين، وتشبه بعض مدن الخليج العربي من حيث الوجود العربي المتنوّع فيها. لكن، برأيي، ديربورن أميركية، قبل أن تكون أي جزء آخر من هويتها. مدينة كوزموبوليتية تشكّل نموذجاً فريداً لجمهورية عربية عصرية مصغّرة تحاول إيجاد حلول لمشاكلها بعيداً من الإرث الثقيل للعالم العربي.

بالطبع، ثمة وجود دينيّ كثيف ستلاحظه فوراً في كثرة الجوامع والمراكز الإسلامية، وتقريباً يتم الإحتفال بمعظم المناسبات الإسلامية هنا، بما يتماشى تماماً مع النظام الأميركي الذي يكفل حرية الممارسات الدينية، وثمة مزج عضوي مزعج أحياناً بين الثقافة العربية والإسلام. لكن أيضاً هناك جيل أميركي لا يعرف الكثير عن العالم العربي والإسلامي، فخور بجذوره بلا تعصب، ويمارس نوعاً من التديّن المفصول تماماً عن الحياة اليومية التي تتبع القوانين الوضعية الأميركية، وهذا ربما درس يمكن الاستفادة منه في إيجاد حلول لأزمة المهاجرين العرب في أوروبا.

الجيل الثاني والثالث من العرب الأميركيين هنا، يشكلان طبقة متوسطة يعوّل عليها، أو طبقة ما يطلق عليها بالإميركية "المهنيون الشباب" Young professionals، أو الياقات البيضاء، وهم لبنانيون ويمنيون وعراقيون غالباً في هذه المنطقة، مع أقليات أخرى من فلسطينيين ومصريين ومغاربة، وآخرهم السوريون الذي بدأوا يتمركزون حول المنطقة العربية في المناطق الواقعة عقارياً تحت سلطة مدينة ديترويت، فيحيون إقتصاد هذه المناطق ذات الغالبية الأفريقية الأميركية بشكل كبير.


(تجهيز للفنانة اليمَنية الأميركية: ياسمين ناصر دياز)

بغض النظر عن الملاحظات الكثيرة التي يمكن سَوقها حول التصحّر الثقافي في المدينة، لا يمكن إنكار القوة الإقتصادية التي تشكّلها، والتي قد تكون مقدّمة لإنتاج جيل واع وله تجربته السياسية، على غرار الشباب الذين بدأوا يتغلغلون في الإدارات الحكومية كافةً، أو عضو الكونغرس من أصل فلسطيني رشيدة طليب (وهي ابنة ديترويت المدينة الأفريقية الأميركية، وليست من ديربورن، وإن كانت قد عملت هناك). لكن المطلوب هو الخروج من التقوقع والعنصرية والانفتاح، والتنسيق مع "الملونين" الآخرين في المنطقة من أفارقة أو أميركيين لاتينيين، لا سيما في ظل الحملات المنظمة لفصل القضايا العربية عن ركاب حقوق الأقليات الصاعدة بقوة. والمطلوب أكثر هو تبلوّر هوية عربية أميركية (وهنا لا بد من درس أين تتقاطع وأين تتصل بالهوية المسلمة الأميركية الأكثر اتساعاً وميوعة).

ما زلنا أقلية هنا. نحن المهاجرين ممّن كنا على اتصال بالوسط الثقافي العربي. نحن لا نشبه الجيل الأول الآتي من القرية نحو العالم الجديد بلا أي مخزون أو أدوات تتيح له هضم الواقع المستجد، ولا الجيل الثاني الذي اختار الانغماس في هويته التقليدية حتى التماهي التام أوآثر الإنكار التام والهروب الكامل نحو المجتمع الأميركي الشاسع. من الطبيعي أن نكون أقلية لكن الفرق هنا هو أن اللغة التي تتنفس داخلها بلا جمهور إلا مرتادي المساجد، واللغة الأخرى بقيت خارج القلب حتى لو ألفها اللسان، لكن على الأقل هنا يمكنك البكاء بدلاً من الاحتراق في الوطن- المذبحة!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب