الأحد 2023/05/28

آخر تحديث: 00:00 (بيروت)

...لكننا لم نتكلم عن حادثة صيدا بوصفها تحرّشاً!

الأحد 2023/05/28
...لكننا لم نتكلم عن حادثة صيدا بوصفها تحرّشاً!
من سلسلة "أقل من بَشَريّ" للفنانة العراقية الأميركية من أصول كردية: هاييف كهرمان
increase حجم الخط decrease

كانت ميسا يعفوري تتشمّس بلباس البحر على شاطئ مدينتها صيدا، حين تعرّض لها شيخ ومرافقوه بهدف طردها. ولما لم تستجب لطلبهم بالمغادرة، حاولوا إزعاجها بأن بدأوا يلعبون بالكرة على مقربة منها، ويتعمّدون رميها عليها. ثم، أمام إصرارها على البقاء، شَرَعوا يقذفونها بكلام جنسي بذيء، ويرمونها مع زوجها بالرمل وقناني المياه. قيل الكثير عن الحادثة، لكني أريد أن أكتب عنها، لا بوصفها قضية حريات فحسب، بل حادثة تحرّش جنسيّ موصوف ومفضوح جرى تهميشه، بسبب من وضوحه تحديداً، لأعيد التفكير فيه بعيداً من ذريعة الغرائز. فالتحرّش هو وسيلة من وسائل استباحة للنساء وإذلالهنّ بغرض إدامة السيطرة عليهنّ.

إن التدرّج الذي حصل فيه الاعتداء (طلب بالرحيل، إقلاق راحة وإزعاج، كلام جنسي، اعتداء جسدي)، يفضح الخطاب الذي يبرّر التحرّش والاغتصاب بكونه استفزازاً من قبل النساء لرجال عاجزين عن التحكّم بشهواتهم. فهو هنا كان على حقيقته تماماً، أي أداة أخرى من أدوات إهانة النساء وقمعهنّ ضمن منظومة قائمة على طردهن بشكل ممنهج من الفضاء العام بهدف إدامة السيطرة عليهنّ واستغلالهنّ الجنسي والاقتصادي في الفضاء الخاص.

وضَع شيخنا وصحبه خطّة طردٍ مدروسة استخدموا فيها شتى أساليب إقلاق الراحة والتخويف والتحقير وتهديد الأمان. فالتحرّش، وهذه وظيفته، لم يكن يوماً ناتجاً عن دافعٍ غرائزي، بل هو سياسة منظّمة هدفها كسر أنفة النساء ووضع اليد (أكتب العبارة وأنتبه للرعب الذي تنطوي عليه في هذا السياق!) على حيواتهنّ وأجسادهنّ. أما الذين حاولوا تسخيف الموضوع باعتباره قضية "مايوه" و"شقفة قماش"، فلم يفهموا أن العنف الذي يستهدف النساء ليس مجموعة سلوكيات منفصلة، بل هو أشبه بطيفٍ عنفيّ يبدأ بالتحرّش وينتهي بالقتل، وبينهما سلسلة متواصلة من الأفعال المتدرّجة في العنف تمهّد الواحدة منها للأخرى.

عندما سمعتُ ميسا تروي ما حصل والغصّة تخنقها، رأيتني مع آلاف غيري ونحن نتعرّض في شوارع مدننا العربية (والكثير من مدن العالم) لهذا الطرد الممنهج من الفضاء العام بواسطة التحرّش اللفظي والتهديد بالاغتصاب في مجتمعات مسحوقة بالفقر والجهل والقمع. أمام الضرب والحبس والاغتصاب والقتل، قد يبدو التحرّش ثانوياً. لكنه فعلياً ممهّد لهذا كلّه. فأن يشعر رجل ما بأنه يمتلك الحق في اقتحام المساحة الشخصية لامرأة لا يعرفها، وينفذ إلى نطاق انتباهها من خلال النظر (ومن خلال غضّه حتّى) أو الإيماءات أو الكلام أو اللّمس، فهذا إنما يدلّ على تصوّر يعتبر أن النساء في موقع متدنٍّ ويعفي الرجال من كل احتياطات الأدب والتهذيب واللباقة وحفظ المسافة التي يفرضها التعامل الاجتماعي بين أشخاص غرباء، فلا يشعر هؤلاء أنهم ملزمون إزاءها بالاحترام. وبالتالي كل وجودٍ لها في مكانٍ عام يصير دعوة للانتهاك.

لنعد إلى ما حدث مع ميسا يعفوري: غادرت ميسا الشاطئ لكنها لم تسكت عن الإهانة. لم "ترجع إلى البيت"، أي الى الحيّز الخاص، وقرّرت أن تخبر ما جرى وتبقي النقاش في الحيّز العام. فإذا بالتحرّش يعود بشكل آخَر هذه المرة، على شكل محاضرات أخلاقية وتعليقات أمام عدسات التلفزيون ومنشورات وصُوَر في وسائل التواصل الاجتماعي تتناول بالانتقاد والتهكّم والذم شكل السيدة ولباسها، وتصفها بالشمطاء القبيحة التي "تستحق" أن يجري التحرّش بها. طبعاً، كان ينبغي تحويل الحادثة إلى درسٍ جماعيّ، إلى سلاح يُرفع في وجه الأخريات. فالسلطة الأبوية تؤدّب أيضاً. بعقد الحاجبين ورفع الإصبع حيناً، وبالتهكّم والضحك في حين آخَر.

هكذا انتشرت نكات عن "سوتيان" من هنا و"كلسون" من هناك، مصحوبة بضحك مراهقين في مرحلة البلوغ، تفضح تصوراً عن الجسد عموماً وجسد المرأة بشكل خاص لا يختلف عن نظرة الإسلاميين له بوصفه موضوع رذيلة. وإذا كان الإسلاميون يتطهّرون من الجسد بالغضب والعنف، فباقي الذكوريين يفعلون ذلك بالضحك والاستهزاء.

أكتب هذا كله، رفضاً لتسخيف الحادثة أو لوضعها في خانة الحريات الشخصية فقط. ثمة امرأة تعرّضت للتحرّش وأُهينت واستُبيحت كرامتها وحريتها بجسمها ولباسها ومكان وجودها. وشعورها بالامتهان شعرتُ به أنا أيضاً والكثير من النساء. إن معركتنا مع الذكوريين، الإسلاميين منهم والعلمانيين، هي معركة حريات وحقوق وعدالة اجتماعية صحيح، لكنها معركة كرامة قبل كل شيء. معركة ضد الاستباحة والامتهان من قبل سفَلَة يتكاثرون في مجتمع موبوء يسمح لنفسه بالتعليق على شكل امرأة وجسمها وما ترتديه. أما شعار الأخلاق الذي يرفعونه، وهم في المقلب الآخَر منه، فإن دلّ على شيء، فعلى تشوّه عميق في منظومتهم الأخلاقية والقدرة على تمييز الخطأ من الصواب والخير من الشر.

"صيدا أخلاقية"، هكذا راح فاقدو الأخلاق يجعرون بمنتهى اللّؤم! بئس هذا الزمن الذي أصابنا بكم وبأخلاقكم!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب